الصباح العربي
السبت، 20 أبريل 2024 04:03 صـ
الصباح العربي

مقالات ورأى

شوقي علام يكتب : مؤتمر دار الإفتاء المصرية وضبط الفتوى

الصباح العربي

إن موضوع الفتوى فى الإسلام هو بيان الحكم الشرعى بخصوص الواقعة المسؤول عنها؛ فالمفتى يقول للمستفتى: جائز لك أن تفعل، أو لا يجوز لك أن تفعل، ومن ثَمَّ شبه الإمام القرافى رحمه الله المفتى بالترجمان عن مراد الله تعالى، كما جعله النووى وابن القيم رحمهما الله بمنزلة الوزير الموقع عن المَلِك، ونقل عن ابن المنكدر قوله: العالِم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم؟
ولما كانت منزلة الإفتاء بهذه المكانة السامقة والأهمية الجليلة، فإن نفرًا من الناس حرصوا على أن يصلوا إليها بأى وسيلة، وكان سبيلهم فى ذلك التشبع بما لم يعطوا، فوقعت منهم وبسببهم مخالفات جسيمة، فيها خروج عما عليه الأمة وعلماء المسلمين عبر القرون؛ إذ ارتضوا لأنفسهم مناهج مبتدعة لم يؤسس لها الوحى الشريف ولم يكشف عنها الأوائل أو الأواخر، حتى باتت سلاحًا يشهره المتطرفون لنشر العنف والقتل وإراقة الدماء الزاكية وانتهاك الحرمات والأعراض المصونة.
وقد وصل بهم الأمر إلى تهديد وحدة الأمة وتماسكها بالطعن فى مناهج وعلماء المؤسسات العلمية الدينية العريقة، خاصة الأزهر الشريف الذى تحمَّل منذ إنشائه مقاليد المناهج الشرعية والثقافة الإسلامية والعربية، حتى غدا هو لسان الأمة المعبِّر عنها والمبلغ لأفرادها وجماعاتها أمور دينهم، على نحو جعل القصد إلى الدراسة فيه غاية منشودة، وتلقى العلم فى رحابه قِبلة مقصودة.

وتلبية لواجب الوقت بخصوص هذه القضية الخطيرة التى مُنيت بها الأمة والأجيال الحاضرة قامت دار الإفتاء المصرية بمناقشتها من خلال مؤتمر عالمى جامع يحمل عنوان «الفتوى: إشكاليات الواقع... وآفاق المستقبل»، والغرض من هذا المؤتمر بحث ومناقشة موضوعات ذات أهمية كبرى تخص الإفتاء كصناعة والفتوى كمنتَج يحتاجه الناس فى المجالات المختلفة لحياتهم، ومن تلك الموضوعات المهمة: أثر الفتوى فى تحقيق التنمية واستقرار المجتمعات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ومواجهة الفتوى للتطرف والتكفير والتعصب، وتحديد معالم الوسطية والتجديد فى علوم الفتوى، كما يتطرق المؤتمر إلى إبراز العلاقة بين الفتوى وبين مقصد العمران، فضلا عن الفتوى وعلاقتها بضوابط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
والمتأمل فيما ذكر آنفا يجد أن هذا المؤتمر يحاول مواجهة التحديات والعقبات التى تقف أمام قيام الفتوى والقائمين على أمرها بالواجب المنوط بهم، بعد توصيفها وتحليلها وصقلها بالميزان المعرفى والشرعى، ومن ثَمَّ يمكن للفتوى القائمة على منهج الأزهر الشريف أن تحمل الناس على المعهود الوسط فيما يتناسب مع واقع وأحوال جمهورهم، فلا تذهب بهم مذهب التشدد والغلو، ولا تميل بهم إلى طرف الانحلال والتفريط.
كما يستشرف هذا المؤتمر المستقبل راسما ملامحه وموضحا أهدافه ومبينا ضوابطه وقواعده، من أجل الارتقاء بمستوى الفتوى إلى مرتبة الانتشار والجدارة فى واقع الناس وحياتهم، حتى تتمكن من المساهمة الجادة والمنضبطة فى إحياء مقاصد الشرع الشريف المرعية التى تحرِّض المجتمع على التحضر وتحقيق رفاهية الإنسان وعمارة الأرض ونشر الرخاء والتنمية مقرون ذلك كله باعتقاد صحيح وسلوك مليح، تحقيقا لقول الله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» [الأعراف: 96]، والبركات: جمع بركة، والمقصود من الجمع تنوعها، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة.
ولا غرو فالاستقامة وفق منهاج الله تعالى ضمانة إلهية لتحقق طيب العيش فى الحياة الدنيا، قال تعالى: «وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا» [الجن: 16].

وكذلك يهتم المؤتمر بإبراز قضية توليد العلوم فى الأمة الإسلامية، والتى تدلل على حيوية وتجدد هذه الأمة التى صنعت حضارة راقية كتبها الدهر ذكرا فى لوح الخلود، وذلك من خلال معالجة موضوع التجديد فى علوم الفتوى، انطلاقا من الخبرة العملية والتراكم المعرفى لدار الإفتاء المصرية، وهو ناجم عن كون الدار تحتل ريادة مؤسسات الإفتاء العالمية، فهى أولى دور الإفتاء إنشاء فى العالم الإسلامى، ومنذ أيام قليلة أصدرت هيئة البريد المصرية طابعًا تذكاريا للدار بمناسبة مرور عشرين ومائة عام على إنشائها بطريقة مؤسسية رسمية.
وتعد تجربة دار الإفتاء، وهى من التجارب المصرية الكثيرة التى يفتخر بها كل مصرى - تُعَدُّ تاريخا عريقا وعملا أصيلا فيه استيعاب للتراث الإسلامى، واستخلاص لمناهج السلف فى التعامل مع مقتضيات العصر ومستجداته وفق قواعد الشرع ومقاصده، ومواكبة للخريطة المعرفية للإنجازات العلمية والتكنولوجية والاختراعات الحديثة والثقافات المتطورة التى نشهدها فى عصرنا الراهن، مما يستوجب التصدى لذلك بالعلم والعمل والمتابعة والرصد والتحليل والاستفادة.
كما يحاول هذا المؤتمر فى نسخته الأولى أن يرسم معالم هادية للأجيال اللاحقة، حتى يمهد لها طريق النبوغ والتفوق، ويساعد على إزالة العقبات التى ستواجههم، ويوضح معالم سبيل المستقبل لهم دون الخروج على ثقافة وهوية مجتمعاتهم التى توازن بين متطلبات الروح وحاجات الجسد، قصدًا إلى خلق جيل يكون ابن وقته وعصره، قادرا على التجديد والتحديث والابتكار؛ فالعقول المبتكرة هى الباعثة للحياة الإنسانية، والموقظة للصحوة الحضارية.
وفى ذلك كله محاولة لوضع لبنة صحيحة فى تأسيس مستقبل رشيد للمجتمع يرتقى به إلى ما ينشده الشرع من ضبط أفعال المكلفين وفق مراد الله تعالى، حتى يسعدوا اختيارا بالسعادة فى الدنيا والآخرة.

نقلاً عن المصري اليوم

مقالات ورأى

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq