الصباح العربي
الجمعة، 19 أبريل 2024 05:54 مـ
الصباح العربي

مقالات ورأى

د. مراد وهبة يكتب: مطلوب مثقف جماهيرى

الصباح العربي

قيل عن المثقف إنه من النخبة، وقيل ثانياً إنه فى مقابل رجل الشارع، وقيل ثالثاً إنه المثقف الجماهيرى وكان المقصود به الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر المؤسس للفلسفة الوجودية فى النصف الثانى من القرن العشرين. وفى هذا السياق صدر كتاب لعالم الاجتماع باتريك بايرث بجامعة كمبريدج بانجلترا تحت عنوان رئيسى «اللحظة الوجودية» وعنوان فرعى «صعود سارتر مثقفاً جماهيرياً» (2015). والقصد من العنوان الرئيسى أن اللحظة الوجودية تعنى فترة زمانية قصيرة وهى الفترة التى فيها انتبه الجمهور إلى سارتر وإلى فلسفته من عام 1944 إلى عام 1947. والسؤال إذن: لماذا هذه الفترة؟

كان سارتر قد أصدر كتابه العمدة والمعنون «الوجود والعدم» فى عام 1943. ولكن بسبب لغته المعقدة لم يكن سارتر موضع انتباه، إذ إن الانتباه لم يتحقق إلا ابتداء من عام 1944 مع حدوث صدمة ثقافية سببها استيلاء ألمانيا على كل فرنسا، وهجرة المثقفين وفى مقدمها كبار الفلاسفة، وإعلان رئيس وزراء فرنسا بيتان التزامه الكامل بألمانيا النازية واتخاذ فيشى مدينة لإدارة الحكم، ومن هنا قيل «حكومة فيشى». ومن هنا أيضا أصبحت الفلسفة الوجودية فى الصدارة فى المجال العام وأصبح سارتر مثقفاً جماهيرياً وذلك بسبب رواياته ومسرحياته التى كانت معبرة ومروجة لهذه الفلسفة. وفى أول أكتوبر من عام 1945 أصدر مجلة «العصور الحديثة» لمناقشة قضايا العصر والالتزام بالانخراط فى النشاط السياسى من أجل التغيير. وفى 29 أكتوبر من ذلك العام ألقى محاضرة فى باريس تحت عنوان «الوجودية والانسانية» التى أعلن فيها لأول مرة عن مصطلح «الوجودية» وقصد به أن الانسان محكوم عليه أن يكون حراً، ولهذا فهو بلا هوية فى البداية، ومعنى ذلك أنها تتشكل مع التطور، والتطور هنا يعنى قدرة الانسان على مجاوزة ذاته، وهو فى هذه المجاوزة يُشَرع لنفسه ما يريده وهو يمارس حريته، وهو فى هذا التشريع يشرع للآخرين لأن الآخر هو شرط وجوده سواء كان هذا الآخر معه أو ضده. وأى مثقف يروج لأى حتمية فهو فى رأى سارتر «مثقف جبان». ومن هنا فإن الانسانية المرتبطة بالوجودية هى انسانية مفتوحة وليست مغلقة، وبالتالى يمتنع تحويلها إلى معتقد، لأن من شأن المعتقد أن يكبل الانسان ومن ثم يقضى على الحرية التى هى البداية والنهاية. ومن هنا فإن سارتر يقول إن الحرية هى أساس القيم، وهى فى هذا المعنى يمكنها تطوير هذه القيم. وإثر هذه المحاضرة أصبح سارتر مثقفاً جماهيرياً فى القرن العشرين. ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: لماذا صدرت ست طبعات من كتاب «الوجودية والانسانية» ابتداء من عام 2007 إلى عام 2013؟ وأجيب بسؤال: هل صدرت لإحياء سارتر مثقفاً جماهيرياً؟ أظن أن الجواب بالنفى لأن سارتر نفسه قبل أن يغادر هذه الدنيا بعشرين عاماً قد أصدر كتابه المعنون «نقد العقل الديالكتيكى» فى عام 1960 والمشهور بأنه عقد زواج بين الوجودية والماركسية لأنه خشى على الوجودية من أن تتوارى لأنها لم تعد معبرة عن الطبقة العمالية الصاعدة التى تدافع عنها الماركسبة. وأظن أن الجواب بالنفى أيضاً لأنه أصبح موضع هجوم حادا من الشيوعيين. هذا السؤال إذن فى هذا السياق هو بلا جواب. فما الجواب إذن: أظن أن الجواب يكمن فى التلويح بمثقف جماهيرى جديد يتفق مع ما يحدث فى هذا القرن والذى هو مغاير للقرن العشرين. والمغايرة هنا تكمن فى طبيعة الحرب. فالحرب العالمية الثانية كانت حرباً بين جيوش ودول أما الحرب القائمة الآن فهى حرب ميليشيات مسلحة أصولية تستهدف أفراداً عُزل. أى بلا سلاح. ومن هنا يكون الحديث عن الحرية على نحو ما يراها سارتر هو حديث بلا معنى لأنه لا معنى للحرية وحق الانسان فى الحياة مهدد من قِبل هذه الميليشيات. والمغزى أن حق الحياة فى الصدارة وليس حق الحرية، ومن هنا يكون القتل أمراً مطلوباً ولازماً، ويكون صعود المثقف الجماهيرى أمراً مضاداً مطلوباً ولازماً.

والسؤال بعد ذلك يكون على النحو الآتى: ما هى سمات هذا المثقف الجماهيرى؟

بالسلب يمكن القول إنه لن يكون من أولئك الذين يتحدثون عن العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على أنها هى سبب الارهاب لأن هذا الحديث ينطوى على تبرير لضرورة الارهاب طالما أن هذه العوامل قائمة فى حين أنها عوامل لا علاقة لها بالارهاب الدينى ولا بالمعتقد الدينى، لأن هذه العوامل هى من صنع عقل الانسان بحكم أن الانسان حيوان عاقل قبل أن يكون حيواناً اجتماعياً. ومن هنا فإن المثقف الذى يتحدث على هذا المنوال هو مثقف خائن. هذا بالسلب أما إذا أردنا أن يكون الجواب بالإيجاب فالمثقف الجماهيرى هو الذى ينشئ تياراً مضاداً للأصوليات الدينية، وهو بالتالى المثقف المطلوب فى القرن الحادى والعشرين.
نقلا عن صحيفة الأهرام

د. مراد وهبة يكتب  مطلوب مثقف جماهيرى

مقالات ورأى

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq