الصباح العربي
الخميس، 25 أبريل 2024 10:13 صـ
الصباح العربي

مقالات ورأى

د. عبد المنعم سعيد يكتب: قمة الحكومات العالمية

الصباح العربي

الدول فى العالم الآن ثلاثة أنواع: أولها دول كبرى من حيث المساحة وعدد السكان والموارد الطبيعية، ولديها تاريخ مرموق ينفع فى السياحة أو يخلق رصيدا من الاحترام لدى الأعداء والأصدقاء، فإذا أضافت إلى كل ذلك التعليم والتكنولوجيا والطموح فإنها تصير دولا عظمي، أو نحو ذلك. وثانيها دول صغرى فى المساحة والسكان والموارد الطبيعية، وبلا تاريخ يخصها، وليس لديها لا علم ولا تكنولوجيا، وهذه تكون فقيرة الحال، وفى الأغلب فإنها تصير مطمعا لقوى أكبر إقليمية ودولية. وثالثها، هى دول صغرى من حيث الشكل ولكنها من حيث المضمون القائم على التعليم والعلم والتكنولوجيا والمهارة السياسية والاقتصادية، فإنها تعرف كيف تخلق لنفسها تاريخا واحتراما. ولم تكن هناك صدفة أن تعبير «النمور الآسيوية» جرى إطلاقه على دول صغرى مثل سنغافورة وتايوان وهونج كونج عندما كانت وحدها بعيدا عن الصين. هذه الدول على الأغلب تضيف كثيرا إلى ثروتها بالعمل الشاق، والاشتراك العنيد فى السباق الاقتصادى الدولى بحثا عن التفوق حتى إزاء الدول الكبرى والعظمى فى مجالات بعينها.

المثال العربى الوحيد فى هذه المنظومة من الدول هو دولة الإمارات العربية المتحدة عامة وإمارتا دبى وأبوظبى خاصة. فى هذه الدولة لم يكن النفط هو ما خلق منها حقيقة دولية كبيرة، وإنما ما أضافه الإنسان إلى المساحة وعدد السكان نتيجة العلم والتكنولوجيا والسبق فى التقارير العالمية للتنمية البشرية أو التنافسية أو السعادة. عدد سكان الإمارات لا يزيد على مليون ومائتى ألف نسمة، يعيشون مع ما يقرب من ثمانية ملايين من جنسيات العالم المختلفة بقدر كبير من التسامح، وفى مشاركة حقيقية للبحث عن السعادة والرضاء. ورغم أن دولة الإمارات كان ممكنا لها أن تكون دولة نفطية وكفي، ولكن ذلك لم يكن ليعطيها من عناصر القوة والتأثير سوى المال. ما حدث فعلا هو أن إمارة أبو ظبى دخلت بقوة فى مجالات مثل مصادر الطاقة المتجددة وتحلية المياه؛ أما دبى فقد خلقت لنفسها مجموعة من المزايا النسبية مثل إدارة الموانى وشركة طيرانها هى الأولى فى العالم. وفى كلتا الإمارتين فإن «العولمة» كانت إضافة لهما وليس خصما منهما، وذلك عن طريق استثمارات عالمية من شركات التكنولوجيات الجديدة إلى أندية رياضة كرة القدم. وأينما تولى الوجه الآن عندما تشاهد كبريات الأندية العالمية سوف تجد إعلانات الطيران على طائرات الإمارات أو الاتحاد الظبيانية، فضلا عن أسماء أبو ظبى ودبى تعلن مناسبات لا تخلقها إلا دول كبيرة.

جزء من هذه الإستراتيجية أن تكون دولة الإمارات مندمجة مع المناظرات والحوارات التى تدور حول إدارة العالم وإدارة الدول فى ظل تغيرات تكنولوجية ومعرفية عميقة. ومنذ عدة سنوات بدأت الإمارات فى عقد مؤتمر سنوى تحت اسم «قمة الحكومات العالمية» حيث يدعى رؤساء حكومات الدول ـ 120 فى المؤتمر الأخير ـ للبحث فى كيفية التعامل مع المتغيرات الجديدة فى الدنيا، وفى الوقت نفسه تعرض الدول تجاربها فى التعليم والابتكار والإبداع وحل المشكلات بصفة عامة. ولكن أصحاب الخبرة هؤلاء لا يجتمعون وحدهم وإنما معهم كبار الفلاسفة فى العالم، والباحثون فى المستقبل، والعارفون إلى أين تسير الاختراعات الحديثة، والدارسون لخبرة التعامل مع الانتقالات الكبرى فى الحياة الإنسانية من ثورات زراعية وأخرى صناعية متعددة التكنولوجيا وتأثيرها على حياة البشر. ورغم أن «فرانسيس فوكاياما» قد خطف بعض أضواء الكاميرات وهو يتراجع فى أطروحته عن نهاية الحضارات، فإن العروض التى كانت عن التعامل مع «الميجا داتا» أو «قواعد البيانات العملاقة»، وكيفية استخدامها فى تحسين أحوال البشر من المرور حتى القضاء على الفقر، كانت أكثر فاعلية.

الدول إذن ليست بالحجم وعدد السكان والمساحة، وإنما بمدى القدرة على استخدام كل ذلك، وهو ما لا يحدث مالم يتم وضع قواعد البيانات الخاصة بها، وبنك الأفكار الذى يبحث فى كيفية استخدام إمكاناتها. ومصر دولة من هذا النوع الذى توافرت له من الإمكانات والقدرات والثروة ما يجعله يقع ضمن الصفوف الأولى من دول العالمم ولكن ذلك لم يحدث لأن 93% من الأرض غير مستغلة، وقرابة 30% من السكان من الأميين والفقراء. التعرف على كل هذه الإمكانات عن قرب يضع المعلومات الكافية التى تسمح لصانع القرار برسم السياسات والإستراتيجيات اللازمة للاستفادة من المزايا النسبية للبلاد. ولا شك أن إصدار بطاقات الرقم القومى لكل المواطنين تقريبا قد جعل سياسات الدعم المصرية أكثر رشدا، وكذلك فإن إحكام الإحصاءات والمعلومات خلال السنوات الأخيرة قد أعطى فرصا أكبر للتقدم والنمو. مثل هذه القدرات، إذا ما أتيحت للمحافظات وجرت دراستها وفق خطط علمية فإن ذلك يعطيها قدرات أكبر على استخدام المزايا النسبية لديها. فالقضية فى الأول والآخر هى استغلال المزايا النسبية، وإذا كانت هذه قليلة أو تقتصر على مورد طبيعى واحد مثل النفط، فإن خلق هذه المزايا النسبية يصبح واجبا على الدولة.

ولحسن الحظ أن مصر لديها مزايا نسبية متنوعة، سواء كان ذلك فى الصناعة أو الزراعة أو السياحة أو الموارد الطبيعية، ولكن كل ذلك لم يسمح لها فى الماضى بالتقدم كثيرا إلى ما تحتاجه، وتستحقه. لماذا لم يحدث ذلك خلال العقود السابقة، يعود إلى أن التغنى بالإمكانات والأمجاد الماضية كان يشكل بديلا لتعبئة الجهود لتحقيق انطلاقة ممكنة. وربما يكون مفيدا لكل العاملين فى مصر الحصول على ما نتج عن قمة دبى العالمية للحكومات، للاستفادة من خبرتها وما تقدمه من دروس، فمن يظن أن لدينا مشكلات ومعضلات فربما عليه أن يعرف أن ما مررنا به مرت به أمم من قبلنا، وفى القمة الأخيرة كانت الهند بعدد سكانها، والصين بسكانها ومساحتها، وبينهما يوجد قرابة مليارين وسبعمائة مليون من البشر، هما نجوم القمة ليس بالعدد أو المساحة وإنما بالأفكار المطبقة التى جعلت منهما دولا عظمى فى عالم اليوم.

نقلا عن صحيفة الأهرام

د. عبد المنعم سعيد يكتب  قمة الحكومات العالمية

مقالات ورأى

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq