الصباح العربي
الجمعة، 19 أبريل 2024 07:29 صـ
الصباح العربي

محافظات

 د. مراد وهبة يكتب:  رؤيتى لـ «القرن الحادى والعشرين» (232) إعلان كوكبى لحقوق الإنسان

الصباح العربي

صدر هذا الإعلان فى 10 ديسمبر 1948، أى إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومع نشأة مؤسسات دولية فى ذلك العام مثل مجلس الكنائس العالمى والاتحاد الدولى للجمعيات الفلسفية. والمغزى أن ذلك العام، عام 1948 هو البداية الحقيقية لبزوغ ما يسمى زمن الحرب الباردة الذى هو فى إيجاز تعايش سلمى مصطنع بين معسكرين متناقضين تناقضاً حاداً وهما الكتلة الشيوعية والكتلة الرأسمالية مع بزوغ كتلة حائرة بين المعسكرين، بين الانحياز وعدم الانحياز. ومع سقوط الكتلة الشيوعية فى عامى 1989، 1991 يكون سقوط كل ما تأسس فى عام 1948. ولا أدل على ذلك من بزوغ ظاهرتين متناقضتين تناقضاً حاداً وهما الكوكبية والإرهاب. فالكوكبية علمانية بحكم نسف الفواصل الحادة التى تسبب فى صناعتها مُلاك الحقيقة المطلقة ومن ثم أصبحنا نتعاطى النسبية بلا تحفظ أو خوف. والإرهاب فى هذا الزمان هو دينى فى المقام, والمفارقة هنا أن ذلك الإرهاب الدينى أصبح ظاهرة كوكبية مع أنه ضد الكوكبية. والسؤال إذن: ما هى العلاقة بين الكوكبية والإرهاب الدينى من جهة وضرورة إعلان كوكبى جديد لحقوق الانسان؟ ولفظ كوكبى فى هذا السؤال هو بديل عن لفظ عالمى بحكم أن ما يعنينا الآن هو كوكب الأرض وليس الكواكب التى تكوَن فى جملتها العالم. وإذا كان مُلاك الحقيقة المطلقة هم سبب الارهاب الديني، وإذا كانت الحقيقة فى جوهرها من صنع العقل فيلزم عن ذلك أن تكون ثمة علاقة بين العقل وحقوق الإنسان. وحيث إن العقل هو المولد للنسبية كما أنه المولد للمطلقية فيلزم تحديد مسئولية العقل فى توليده لأى منهما. ونبدأ بالمطلقية التى يتوهم العقل أن لديه القدرة على امتلاكها والتحكم فيها وتسييرها فى المسار الذى يريده. وقد قيل عن هذه المطلقية فى تاريخ الفكر الانسانى بأنها دوجما. والسؤال بعد ذلك: ما معنى لفظ الدوجما؟

يمكن تعريف الدوجما بأنها أفكار صادرة عن سلطة خارجية وليس عن اقتناع عقلانى صادر عن العقل المفكر. وكان هذا التعريف واضحاً لدى فلاسفة التنوير فى القرن الثامن عشر، بل كان أكثر وضوحاً بالنسبة إلى رائد التنوير الفيلسوف الألمانى كانط، إذ ارتأى أن التنوير هو على الضد من الدوجماطيقية التى تعنى عدم نضج الانسان. وإذا كان ذلك كذلك فمعنى ذلك أن التحرر من الدوجماطيقية أمر لازم. إلا أن هذا التحرر لا يعنى التشكك فى كل المسائل، إنما يعنى التشكك فى قدرة العقل على قنص الحقيقة المطلقة، وهذا النوع من التشكك هو الذى يفضى إلى التسامح الذى يعنى ان العقل محكوم عليه بعدم الدخول فى مجال الحقيقة المطلقة مهما يكن لهذا المجال من جاذبية وهمية لأن الدوجما قائمة بلا سند من برهان عقلي. إنها مجرد معتقد. ولا أدل على ذلك من أن صاحب الدوجما أو المعتقد يبدأ حديثه بالقول: «أنا أعتقد كذا».

وليس من حق أحد أن يعقب، إذ هو حر فيما يعتقد، ولكنه ليس حراً فى فرض معتقده على الآخرين، وبالتالى فإنه ليس حراً فى تكفير أو قتل مَنْ يرفض معتقده. وتأسيساً على ذلك يمكن القول إن ثمة علاقة عضوية بين مفهومنا عن العقل ومفهومنا عن التسامح. ومن شأن هذه العلاقة أن يمتنع معها الوعظ والإرشاد فى التبشير بالتسامح، لأن التسامح أصبح مسئولية العقل وليس من مسئولية أى سلطة خارجة عن سلطة العقل. ونحن عندما ندعو إلى مسئولية من هذا القبيل، إنما ندعو، فى الوقت نفسه، إلى العلمانية لأنها هى التى تتنكر لأى سلطة تريد مجاوزة سلطان العقل.

وفى هذا السياق يلزم تغيير الإعلان العالمى لحقوق الانسان. فقد جاء فى البندين الأول والثانى أن البشر يولدون أحراراً ومتساوين فى الحقوق ولا تفرقة بينهم بسبب العرِق أو الدين أو الجنس او اللغة أو الآراء السياسية أو القومية أو الاجتماعية أو بسبب الملكية أو الميلاد. والذى يهمنا من ألفاظ فى هاتين المادتين لفظان أساسيان وهما الدين والمِلكية. وأنا هنا أحدد معناهما. الدين يعنى العلاقة بين الانسان ومطلق معين، والملكية التى أعنيها ليست هى الملكية التى يعنيها الاعلان. فالملكية الواردة فيه تعنى ملكية الأرض أو المصنع، ولكنها لا تعنى ملكية الحقيقة المطلقة. وأنا أظن أن هذه المِلكية الجديدة هى الملكية الجديرة بأن ينص عليها فى الإعلان الكوكبى الجديد لحقوق الإنسان لأنها هى المتمثلة فى هذا القرن فى الأصوليين الذين يشكلون تياراً كوكبياً. وبناء عليه تكمن المهمة الرئيسية فى كيفية التحول من ثقافة التعصب إلى ثقافة التسامح، أو بالأدق، من ثقافة الإرهاب الدينى إلى ثقافة مضادة هى ثقافة العلمانية، وبالتالى تكون هذه الثقافة هى المحور الذى تدور حوله بنود الإعلان الكوكبى لحقوق الإنسان.

نقلا عن صحيفة الأهرام

 د. مراد وهبة يكتب رؤيتى «القرن الحادى والعشرين»  إعلان كوكبى حقوق الإنسان

محافظات

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq