الصباح العربي
الخميس، 25 أبريل 2024 12:43 مـ
الصباح العربي

مقالات ورأى

د. مراد وهبة يكتب: رؤيتى لـ «القرن الحادى والعشرين» (208) فلسفة جماهيرية

الصباح العربي

أصك هذا المصطلح الوارد فى عنوان هذا المقال وأضيفه إلى المصطلحات التى صُكت إثر الثورة العلمية والتكنولوجية فى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين وهى على النحو الآتي: وسائل إعلام جماهيرية ووسائل اتصال جماهيرية وثقافة جماهيرية ومجتمع جماهيرى وإنسان جماهيرى الذى هو رجل الشارع، وتكون الفلسفة الجماهيرية، فى هذه الحالة، لازمة للانسان الجماهيري. وقد بدت ملامح هذه اللازمة فى الكتاب الذى أصدرته جامعة أكسفورد فى عام 1982 تحت عنوان رئيسى «أصحاب الأفكار» وعنوان فرعى «نفر من المبدعين من الفلاسفة المعاصرين».

والمغامرة هنا تكمن فى هذا السؤال: هل المطلوب من التليفزيون أن يكون جاداً فى بعض ما يعرضه على المشاهدين الذين هم، فى الأغلب الأعم، من سلالة الإنسان الجماهيري؟ وفى صياغة أوضح: هل فى إمكان الانسان الجماهيرى المشاهد للتليفزيون أن يكون هو نفسه راغباً فى أن يكون جاداً وأن تكون هذه الجدية لازمة ومطلوبة؟ وأجيب بسؤال: ما علامة هذه الجدية؟ أغامر فأقول إنها الرغبة فى التفلسف. وقد برزت هذه الرغبة فى زمن سقراط عندما كان يستوقف المارة فى الأسواق ويُدخلهم فى حوار فلسفى يتعلمون منه أن تكون المسلمات والبديهيات موضع تساؤل إذ هى مكبوتة ويخشى الانسان إزاحة الغطاء عنها. ومن هنا انزعجت السلطة السياسية لأنها ارتأت أن هذا الحوار من شأنه أن يوقظ رجل الشارع من سُباته الدوجماطيقى وعندئذ يكون من الصعب أن يكون مطيعاً ومنفذاً فى هدوء للقرارات التى تتخذها هذه السلطة. وبسبب ذلك أُعدم سقراط وإثر إعدامه هرب تلميذه أفلاطون من أثينا لمدة أحد عشر عاماً. وبعد ذلك عاد إليها مع قرار منه بأن يُدخل الفلسفة فى مبنى مغلق أطلق عليه اسم «الأكاديميا» وكتب عند مدخله «لا يدخل هنا إلا كل عالم بالهندسة» لكى يمنع رجل الشارع من الدخول، أما الآن فمع الثورة الالكترونية لم يعد فى الامكان إقصاء رجل الشارع، بل لم يعد فى الامكان تجاهل تغيير ذهنيته حتى يمكنه المساهمة فى تطوير مجتمعه بل فى تنويره. ولا أدل على ذلك من أن السياسة الآن أصبحت هى الأخرى جماهيرية. ولا أدل على ذلك من هبوب ثورات الربيع العربى فى عام 2011. و المفارقة هنا أنه مع هذه الثورات نشأ ما يضادها من ارهاب هو فى المقام الأول ارهاب دينى مدعم بلغة دينية تدفع صاحبها إلى تكفير مَنْ يعاديه ويقتله إذا واصل العداء، الأمر الذى يلزمنا بتحليل هذه اللغة الدينية لبيان ما فيها من زيف من أجل إنقاذ الحضارة الانسانية. وفى هذا السياق تكون الاستعانة بالحوارات التى أجراها بريان ماجِى من وسائل مقاومة الارهاب. والسؤال إذن: كيف يمكن أن تكون كذلك؟ اللافت للانتباه فى هذه الحوارات أنها دارت فى أغلبها مع فلاسفة منشغلين بلغة الفلسفة بل باللغة العادية التى هى لغة رجل الشارع. وقد كان الفيلسوف الانجليزى جون أوستن فى مقدمة الفلاسفة الذين تناولوا تحليل هذه اللغة.

والسؤال اذن: ماذا اكتشف فى هذا التحليل؟ اكتشف فى البداية أن الفلاسفة يثرثرون بعبارات بلا معنى لأنهم لم يفهموا مقتضيات اللغة التى ينطقونها، وبالتالى أفسدوا استخدامها. وترتب على ذلك بزوغ مشكلات زائفة، ومن ثم اكتشف أن التحرر من هذا الزيف لن يكون ممكناً إلا بتحليل اللغة العادية وهى اللغة الطبيعية التى هى عبارة عن كلام منطوق. والرأى عندى أنه إذا تداخلت لغة رجل الشارع مع لغة الفلاسفة أمكن بزوغ سقراط جديد فى القرن الحادى والعشرين مغاير لسقراط القرن الرابع قبل الميلاد الذى كان يعنيه السخرية أولاً من آراء محاوريه ثم دفعهم بعد ذلك إلى توليد الأفكار الكامنة فى عقولهم والتى لم تتلوث بالأساطير. وفى هذا السياق اتهم ذلك الـــ سقراط بأنه ينكر الآلهة ويفسد عقول الشباب. أما سقراط هذا الزمان فمهمته الأساسية شفاء البشر من جرثومة الإرهاب التى هى فى نهاية المطاف رؤية الأصوليات الدينية للكون والتى من شأنها دفع رجل الشارع إلى تكفير مَنْ يعارضه وقتله إذا واصل المعارضة، والسؤال بعد ذلك: ما هى العملية الجراحية التى يقوم بها سقراط هذا الزمان للقضاء على جرثومة الإرهاب الكامنة فى عقل الإرهابي؟ وأجيب بسؤال: ما سمة عقل الارهابي؟وأجيب مرة أخرى بسؤال: ما سمة عقل غير الإرهابي؟ إنه عقل مزدوج: عقل يفكر وعقل ينقد ما يُفكر فيه. ومهمة الأوصياء على الارهابى تكمن فى إجراء عملية جراحية يخلعون فيها العقل المزدوج ويضعون مكانه عقلاً آخر ولكنه يكون على مستوى السمع لكى يمتنع الارهابى عن التفكير ويخضع للسمع والطاعة على النحو الذى أشاعه الفقيه ابن تيمية من القرن الثالث عشر فى مؤلفاته بوجه عام وفى عبارته المأثورة بوجه خاص وهى على النحو الآتي: التأويل بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار. وإذا كان التأويل يعنى إخراج اللفظ من دلالته الحسية إلى دلالته المجازية فمعنى ذلك أن ابن رشد يطالب بإعمال العقل فى النص الدينى أما ابن تيمية فيطالب بإبطال إعماله. ومن هنا يكون ابن رشد هو عدو ابن تيمية، ويكون ابن رشد، فى هذه الحالة، هو سقراط هذا الزمان.

 نقلا عن صحيفة الأهرام

د. مراد وهبة يكتب رؤيتى القرن الحادى والعشرين فلسفة جماهيرية

مقالات ورأى

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq