بأقلام القراء

محمد أرسلان يكتب ..الحرب الفكرية أساس الحرب في المنطقة   

الصباح العربي

رويدًا رويدًا تتكشف حقائق الحرب التي تعيشها المنطقة في بدايات القرن الحادي والعشرين والتي بدأت بالحرب على افغانستان ومن بعدها العراق والآن مستمرة بشكلها المكثف في ليبيا واليمن وسوريا وبانت بشكلها الأخير في السودان، وما زالت كرة النار الملتهبة للحرب العالمية الثالثة تتدحرج وستصيب دولًا أخرى، وكلٌ حسب وقتها وزمانها وحسابات القوى الرأسمالية الناهبة والتي تقتات على الفوضى بكل تجلياتها.

معظم حروب الأطراف ليس لها ذاك التأثير في مجرى الحروب القائمة، ويبقى ما يدور الآن في سوريا والعراق ولو بعد حين في ايران وتركيا هي مركز الحرب العالمية الثالثة والتي ستحدد مصير المنطقة للقرن القادم. حيث أن جغرافية كردستان والتي تتوسط هذه الدول الأربعة هي التي ستعطي وضع الحدود المستقبلية للدول شكلها النهائي. حيث أن هذه الجغرافيا كما كانت أساس التقسيم الأول في بدايات الحرب العالمية الأولى وحددت شكل المنطقة في القرن العشرين، كذلك ستلعب الدور ذاته في الحرب العالمية الثالثة والتي نعيش بداياتها الآن.

كانت الحرب العالمية الأولى في شكلها هي حرب تقسيم مناطق النفوذ للقوى الرأسمالية الصاعدة الغربية على حساب الخلافة العثمانية، حرب على المواد الأولية للمواد الخام وكذلك منابع البترول والأهم هو السوق المستهلكة لإنتاج الشركات الرأسمالية لصناعة الأسلحة. 

ولكن مضمون تلك الحرب كانت فكرية وايديولوجية بامتياز وهي القضاء على ما تبقى من عقيدة (دينية) كانت توحد هذه الشعوب والمنطقة فيما بينها، وزرع فكرة بناء الدولة القوموية بدلًا عنها في بعض الدول وكذلك في دول أخرى كانت هناك عملية تزاوج بين الفكرة الدينية والقوموية المتعصبة الشوفينية، أو أن القوى الرأسمالية تركت بعض الدول تنمو على أسس دينية تتحارب فيما بينها إن كانت سنية أو شيعية وهذا كان أخر إصدارات القوى الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة في أعوام السبعينيات.

استطاعت القوى الرأسمالية أن تعتاش على ما بنته من دول قوموية– دينية خلال القرن العشرين من خلال الصراعات الاثنية والمذهبية والطائفية فيما بينها والتي كان فيها الضحية هي الشعوب المغلوبة على أمرها. 

حيث إن معظم الأنظمة التي تربعت على السلطة في تلك الدول المصطنعة على أساس اتفاقيات بين الدول المنتصرة في الحربين الكونيتين الأولى والثانية، كانت تنفذ ما يُطلب منها في تسهيل نهب الثروات في دولها، والأهم تغييب الشعوب عن حقيقتها المجتمعية بطرق شتى ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا، حتى باتت الشعوب منقطعة عن حقيقتها تتصارع فيما بينها لمصطلحات أضافوا حولها هالة من القداسة ليخدعوا الشعوب بها وكأن الحقيقة تكمن فيها وحدها وكل ما هو خارج هذه المصطلحات ما هو إلا عن الخداع والنفاق والعمالة للآخر.
وصلت الأزمة الاقتصادية والفكرية في الدول الرأسمالية إلى أوجهها في الألفية الثالثة، حيث أنها أيديولوجية وفكر القرن العشرين لا يمكن السيطرة على الدول والشعوب بنفس الأسلوب في القرن الحادي والعشرين، نظرًا للطفرات الهائلة في التطورات التكنولوجية التي لم تبقي أي معنى للحدود السياسية للدول التي صنعتها بأيديها. 

لذا أيقنت الدول الرأسمالية وخاصة الشركات العابرة للحدود وللقوميات إنه عليها أن تعمل على تغيير الأنظمة التي صنعتها بأيديها في القرن العشرين وكذلك تغيير شكل الدول القوموية– الدينية التي رسمتها بنفسها والتي أصبحت العائق الوحيد أمام خروج الرأسمالية من أزمتها التي باتت تفتك بها من الداخل. 

فكان مشروع الشرق الأوسط الكبير هو المخرج للرأسمالية التي وصلت أوج قوتها في ما بعد الحداثة الرأسمالية وما بعد النيو ليبرالية. 

هذا المشروع الذي سيغير شكل المنطقة من الأساس وسيزيل الحدود السياسية ما بين الدول وتقسيمها لدول اصغر أي تقسيم المقسم بالأساس وتشتيت المشتت وخلق فوضى أخرى علَّها تطيل من عمرها قرنًا آخر.

العقبة الوحيدة التي اصطدم به مشروع الشرق الأوسط الكبير كان وما زال مشروع الشرق الأوسط الديمقراطي الذي رسم ملامحه السيد أوجلان منذ بدايات التسعينيات وأخذ شكله شبه النهائي في أعوام الألفين وبعد اعتقاله من قبل استخبارات القوى الرأسمالية وتسليمه لتركيا لإشعال حرب الثنائيات التي كانت متواجدة في المنطقة بالأساس وفق الاقتتال التركي – الكردي، العربي – الكردي، الفارسي – الكردي وكذلك سني – شيعي، عربي – سرياني... الخ. وهذا أرادته القوى الغربية في إدامة الصراع وخلق الفوضى في المنقطة لتحقيق اطماعها ومصالحها ولتذهب الشعوب والمجتمعات إلى الجحيم.

هذا ما خططت له أيضًا في ما يسمى بثورات "الربيع العربي" واشعال الحروب في تونس وليبيا واليمن وجعلها تدور في رحى الحروب اللا نهائية. وأما في سوريا لم تنجح أيضًا مخططاتهم أو كما هم كانوا يتخيلون، حيث كان الكرد يمتلكون مشروعهم الخاص بهم في تسيير ثورة بكل معنى الكلمة ثورة يكون أساسها التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي والأخلاقي وفق فكر جديد بعيدًا عما هو مألوف في أدبيات الثورة في القرن العشرين والذي تبنته ما يسمى المعارضة المرتمية في أحضان تركيا. اتخذ الكرد مشروع بناء المجتمع الديمقراطي المبني على أساس أخوة الشعوب والعيش المشترك في ثورتهم والذي جوهره الأمة الديمقراطية البديل الحقيقي لما هو موجود أو مطروح لحل القضايا المعاشة في المنطقة من قبيل الأمة القوموية أو الأمة الدينية.

السبب الحقيقي وراء عداء تركيا لشعوب شمالي سوريا وخاصة الكرد منهم لأنهم أصروا على بناء مشروعهم الديمقراطي في الإدارة الذاتية الديمقراطية المعتمدة على أخوة الشعوب والذي هو أساس بناء مشروع الشرق الأوسط الديمقراطي. وحتى أنه يمكننا القول أن موقف روسيا وايران وحتى النظام السوري وكذلك تغريداتترامب لها علاقة وطيدة بهذا الأمر. إذ، أن لهذه الدول مشاريعهم الخاصة والتي يعملون عليها ومنهم من يرفض هذا التغيير تحت مسمى الحفاظ على ما كان قديما وهذا ما تتزعمه روسيا وايران وتركيا والنظم القوموية– الدينية في المنطقة التي ترفض التغيير وتستميت على الحفاظ على سلطتها، والمشروع الذي تتقدم به الدول الرأسمالية في الشرق الأوسط الكبير الذي يسعى لتفتيت المنطقة أكثر إلى دويلات تتناحر فيما بينها. لكن يبقى الصراع بين القديم في الحفاظ على عقليته القوموية– الدينية الشوفينية المتطرفة وبين ما تسميه الرأسمالية بالجديد والذي يخدم اطماعها ومصالحها في النهاية. 

هذين المشروعين المتناحرين لم يكونا الحل في القرن العشرين ولن يكونا كذلك ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين, لأن المشروعين لا يحملان الجديد في جوهرهما إلا زيادة الوطأة على المجتمعات والشعوب وجعلها ضحية لمشاريعهما العبثية. لكن مشروع الشرق الأوسط الديمقراطي الذي وُضِعَت لبناته في شمالي شرق سوريا يبقى الأمل الجديد لإخراج المجتمعات من دوامة الاقتتال والخرب والدمار والمستمرة منذ قرون عدة.

صراع الأفكار هو أساس كل الصراعات عبر التاريخ بين ما هو محافظ وقديم وبين الجديد الذي يسعى إلى إخراج المجتمعات من الحالة المزرية التي تعيشها، وهذا ما رأيناه في معظم الثورات التي كان لها التأثير الكبير والتي لا يمكن إمحائها من ذاكرة الشعوب. 

الأمة الديمقراطية وأخوة الشعوب هي الفكر الجديد المنبعث من نفس المنطقة والجغرافيا التي كانت يومًا ما مهد الحضارة البشرية والتي انتشرت منها نحو الأطراف في مصر الفرعونية والصين الكونفوشيوسة والهند البوذية. لعل التاريخ يعيد نفسه ويسعى للنمو من جديد على جذوره في نفس الجغرافيا في نشر قيم الديمقراطية والسياسة الاخلاقية لبناء مجتمع حضاري تكون فيه أخوة الشعوب هي الأساس. 

إذا، هي حرب فكرية وايديولوجية التي نعيشها في القرن الحادي والعشرين وليست فقط حرب اقتصادية أو ثقافية أو سياسية، كما يتم وصفها من قبل الكثيرين من الأوساط. لأن كل ناحية من هذه النواحي يلزمها فكرة كي تنجح. والذي يمتلك الفكرة يمتلك قيادة الثورة.