فن وثقافة

د. أحمد الخميسي.. عــلــى الــراعــي.. مــئــويــة مــثــقــف عــظــيــم

الصباح العربي

تحتفل الأوساط الثقافية هذه الأيام بالذكرى المئوية لميلاد الدكتور على الراعي المولود في السابع من أغسطس عام 1920. وهي ذكرى عزيزة على قلب كل مثقف وطني مستنير، ليس فقط لأن د. الراعي ترك لنا أكثر من خمسين كتابا في الأدب والثقافة لكن لأن في كل كلمة من كلماته داخل كتبه شعت المحبة السخية للناس، والإيمان بقدراتهم، والانحياز إلى هموهم وآمالهم. وقد تكون الحرفة والعلم مكتسبات الخبرة وثمارها، لكن المحبة طبيعة قلب. هنا تحديدا يكمن الفرق بين كاتب عظيم وكاتب آخر عظيم. انظر قول الراعي في حوار مع فاروق شوشه: "أنا أعتقد أن الإبداع هو نتيجة حب، حب للإبداع وحب للناس، كذلك النقد أيضا نتيجة حب، حب للعمل الذي يتعرض له الناقد، وحب وشعور بالامتنان؛ امتنان أشعر به أنا شخصيا لكل من كلف نفسه عناء الكتابة وحاول أن يوصلها للناس". إنجازات الراعي وتأثيره في الفكر الثقافي والأدبي أكبر من أن يتسع لها مقال، بدءا من حصوله على منحة دراسية في جامعة " برمنجهام" ودرجة الدكتوراه برسالة عن برنارد شو، ثم عمله أستاذا بجامعة عين شمس، وترأسه مجلة المجلة عام 1959، ثم استقالته التي قلما يقدم عليها مثقف من جميع مناصبه الحكومية عام 1968 لكي يتفرغ للكتابة والبحث الأدبي. وفي رحلته الطويلة تلك كان الراعي دوما علامة بارزة على الحرية والاستنارة والوطنية والمقدرة الفذة على تفسير وتقديم واقعنا الثقافي تاريخيا وحاضرا. وانطلاقا من ضميره الذي تفتح على تراث الشعب المصري، ترك لنا كتبا فذة ، أقرب إلى الاكتشافات، مثل :" الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري" و" فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحاني"، و" شخصية المحتال في القصة والرواية والمسرحية". واتسع اهتمامه لقضايا الوطن العربي برهافة ودقة فكتب:" المسرح في الوطن العربي"و"الرواية في الوطن العربي". وإذا كانت محبة الناس جزء أصيل وعميق من موهبة د. الراعي وركيزة ينطلق منها إلى كل عمل أدبي، فإن رؤاه الفكرية كانت قريبة إلى تلك الموهبة، تضجر من التحيز، والتصنيف، لذلك يقول عن زميله د. عبد القادر القط :" من أبرز ميزات عبد القادر القط أنه اختط لنفسه طريقا وسطا بين اليمين واليسار في السياسة والثقافة معا ، فلم يتعصب لأي الاتجاهين واختار من كل منهما خير ما فيه". والواقع أن النظرة التي يزن بها د. الراعي مسيرة زميل آخر هي تعبير دقيق عن موقف د. الراعي نفسه الذي كره التعصب، وظل يردد : " دع مائة زهرة تتفتح .. لا يهم أن تتفتح، في حقل يمين أو حقل يسار، شريطة أن تكون زهورا بالفعل ذات قيمة ونفع للناس". بالمحبة وكراهية التعصب يمضي د. الراعي إلى المشروع القومي العربي للتحرر الذي يتيح للروابط التاريخية والثقافية أن تعبر عن وجودها وتأثيرها، لذلك فإنه يرى أن الأدب العربي كل لا يتجزأ، رغم الخصوصية الثقافية لكل إقليم. ولاشك أن نظرته تلك مشبعة بإيمانه بثورة يوليو – ليس من باب استرضاء سلطة – لكن دفاعا عن إنجازات حصلت عليها الفئات الشعبية في التعليم والصحة والسكن والعمل. من المحبة إلى كراهية التعصب إلى الايمان بالثورة ثم إلى عدائه العميق للاستعمار. وفي مقال للراعي بعنوان "البلطجي الأمريكي وتابعه الهزيل" في الأهرام فبراير 98 يقول الراعي إن ما تسعى إليه أمريكا هو"عالم أمريكي واحد أو فناء العالم" وأن هدفها الاستيلاء على ثروات الشعوب، وأن" الهيمنة الأمريكية المتبجحة هي التي جعلت أمريكا وحدها تحدد مفهوم حقوق الإنسان بل ومفهوم الإنسان نفسه، وهو الإنسان الغربي عامة ، والأمريكي خاصة.. وماعدا هذا فالإنسان لا يوجد على الأرض"!

الآن، في ذكرى ميلاد د. الراعي، نشعر بمدى افتقادنا لذلك المفكر العظيم، وافتقادنا لصوته المولع بوطنه، وإيمانه العميق بالتحرر والديمقراطية، ورؤيته العميقة للثقافة بصفتها جزءا من عملية تطوير المجتمع والتقدم به، وليست مجرد تأملات ضبابية. في ذكراك نقول لك : يتفتح اسمك في كل الفصول، لا يذبل، ولا يغيب.

أحمد الخميسي عــلــى الــراعــي مــئــويــة مــثــقــف عــظــيــم