الصباح العربي

التواصل بين الرجال والنساء على شبكات التواصل الاجتماعي من منظور الإسلام: أين حدود المباح؟

الإثنين 22 ديسمبر 2025 10:52 صـ 2 رجب 1447 هـ
التواصل بين الرجال والنساء على شبكات التواصل الاجتماعي من منظور الإسلام: أين حدود المباح؟

قد يبدو الأمر بسيطًا: تعليق سريع تحت منشور، سؤال بريء في قسم الردود، أو رسالة خاصة “للاستفسار”. لكن الواقع أن شبكات التواصل الحديثة لا تُشبه المجالس المعتادة؛ فهي تُزيل الحواجز الطبيعية التي كانت تضبط الكلام: المكان، والزمان، ونظرة المجتمع، ووجود الأطراف الأخرى. لذلك يكثر السؤال اليوم: هل التواصل بين الرجال والنساء عبر المنصات الرقمية مباح؟ وإذا كان مباحًا في الجملة، فأين تبدأ المنطقة الرمادية التي قد تقود إلى فتنة؟

قبل كل شيء، من المهم فهم أن هذه المسألة لا تُختزل غالبًا في “نعم/لا”؛ بل تُفهم من خلال النية، وطبيعة الكلام، والضوابط الشرعية المتعلقة بالأدب، وسدّ الذرائع، وحفظ القلوب والأعراض. كما أن معنى الفتنة في اللغة والشرع واسع ومتعدد، ويُستعمل في الاختبار والابتلاء والاضطراب وما يترتب عليه من انحراف؛ ولذلك يتعامل كثيرون مع التواصل الرقمي بحذرٍ أكبر من مجرد كونه “حديثًا عاديًا”.

لماذا الإنترنت أكثر حساسية؟

في الواقع، ليست المشكلة في مجرد تبادل المعلومات. كثير من الأسئلة العلمية، والمناقشات النافعة، والتعاون في الخير، قد تكون مطلوبة ومفيدة. لكن البيئة الرقمية تضيف عناصر جديدة تجعل الانزلاق أسهل:

  1. الخاص يخلق “خلوة نفسية”: الرسائل الخاصة تُحوّل الحوار سريعًا إلى علاقة ثنائية مغلقة، حتى لو لم توجد خلوة مكانية. ومع تكرار الحديث يصبح للرسائل “خصوصية” تُغذي التعلق.

  2. الاستمرارية تُضعف الحواجز: التواصل متاح 24/7، بلا موعد ولا سياق. وهذا يفتح باب التوسع من “سؤال” إلى “حديث”، ومن “حديث” إلى “اعتياد”.

  3. الإشعارات والتفاعلات تُعيد تشكيل النية: اللايك، والرد، والتنبيه، كلها تدفع الإنسان لطلب الاهتمام دون أن يشعر، فيتداخل “المفيد” مع “الممتع” ثم مع “المؤثر عاطفيًا”.

  4. العلنية لا تمنع الاستعراض: حتى التعليقات العامة قد تتحول إلى مسرح للإعجاب وإثبات الذات وإرسال الإشارات غير المباشرة.

المشكلة أن الأمر نادرًا ما يحتاج إلى “قفزة كبيرة”. يكفي أن يستمر التواصل بوتيرة ثابتة حتى يبدأ الحديث في امتلاك مساره الخاص.

حين تساعد المنصة على حفظ الحدود

لأن ضبط النفس وحده في بيئة محفزة ليس سهلًا، تظهر قيمة المنصات التي تجعل الالتزام بالأدب “أسهل تصميمًا”. على سبيل المثال، في شبكة التواصل الاجتماعي للمسلمين Salam.life توجد آلية تُقلّل مساحة الالتباس في النقاشات: المنشورات والتعليقات مُقسّمة إلى نقاشات رجالية وأخرى نسائية، مما يحدّ من اختلاط سلاسل الردود بين الجنسين داخل التعليقات ويجعل الحوار أكثر انضباطًا بطبيعته. هذا لا يعني أن المنصة تمنح “عصمة”، لكن تصميمها يساعد المستخدم على البقاء ضمن إطار واضح بدل الانجرار إلى تواصل متكرر وغير ضروري.

القاعدة العامة: الكلام بقدر الحاجة وبلا تمييع

كثير من أهل العلم عند تناولهم للحوار بين الرجل والمرأة عبر الإنترنت يربطون الحكم بشروط وضوابط، لا بمجرد وجود الكلام. ومن أمثلة ذلك ما ورد في حكم الحوار بين الرجل والمرأة عن طريق الإنترنت، حيث تُذكر ضوابط تتعلق بسلامة القصد، وترك ما يثير الشهوة، واجتناب ما يقود إلى الحرام.

ومن الناحية العملية يمكن تلخيص الضابط في سؤالين بسيطين:

  • هل هناك حاجة معتبرة لهذا الحوار؟

  • وهل أسلوبي وطريقة تواصلي يغلقان باب الفتنة أم يفتحانه؟

التعليقات العامة: متى تكون آمنة ومتى تصبح مشكلة؟

يستند بعض الناس إلى فكرة أن التعليقات علنية، وبالتالي لا حرج فيها. لكن العلنية وحدها ليست كافية. هناك ثلاثة مسارات شائعة يتحول فيها التعليق إلى مدخل للالتباس:

  1. حوار طويل بين شخصين تحت منشور واحد
    قد يبدأ بتعليق علمي، ثم يتحول إلى سلسلة ردود شخصية: مزاح، إطراء، أسئلة خاصة، ثم يصبح المتابعون يشاهدون “قصة” لا “نقاشًا”. المشكلة هنا ليست طول الحوار فقط، بل تحوله إلى علاقة لفت انتباه متبادل.

  2. الأسلوب الذي يحمل أكثر مما يقول
    الإيموجي “الدافئ”، والضحك المبالغ، والتعليقات التي تبدو بريئة لكنها تحمل تلميحًا، كلها تغير معنى الكلام. كثير من الانزلاق لا يبدأ بكلمة صريحة، بل بنبرة.

  3. الانتقال إلى الخاص
    حين يقول أحدهم: “لنُكمل في الخاص” فغالبًا هذا اعتراف ضمني بأن الحديث لم يعد مناسبًا للعلن. وهذه لحظة تستحق التوقف: لماذا لا يمكن أن يبقى الكلام في العلن إذا كان نافعًا ومباحًا؟

قاعدة مراجعة سريعة: لو قرأ زوجك/زوجتك أو أحد من أهلك ما تكتب، هل ستشعر براحة كاملة؟ إن شعرت بحرج أو رغبة في التبرير، فهذه إشارة أن الحدود تضعف.

الرسائل الخاصة: لماذا هي الأخطر؟

الخاص يجمع بين عنصرين: الخصوصية والتكرار. وهذان العنصران يصنعان التعلق سريعًا. تبدأ القصة عادة هكذا:

  • سؤال محدد.

  • ثم “شكرًا، جزاك الله خيرًا”.

  • ثم “كيف حالك؟”.

  • ثم مشاركة تفصيل صغير.

  • ثم انتظار الرد.

  • ثم تتكرر الدائرة.

وهكذا، من غير أن يشعر الإنسان، يصبح مزاجه متعلقًا بإشعار. هنا لا نحتاج إلى وصف درامي؛ يكفي أن نلاحظ أن القلب يضعف حين يعتاد الاهتمام.

ضوابط عملية للخاص (إن احتيج إليه)

  • اجعل الرسالة محددة ومغلقة: سؤال وجواب، دون فتح أبواب جانبية.

  • اختصر: كلما طال الحديث زادت مساحة العاطفة.

  • تجنب أوقات الضعف: خصوصًا السهر والفراغ الطويل.

  • لا تُدخل المجاملات الشخصية: الإطراء غير الضروري وقود للتعلق.

  • إذا كان الأمر يحتاج نقاشًا ممتدًا، فالأفضل تحويله إلى مجموعة عمل أو سياق عام.

ثلاث قصص قصيرة تُظهر “كيف يبدأ الأمر”

القصة الأولى: “تعليق مفيد”
كتب شاب تعليقًا يصحح معلومة تحت منشور. ردت فتاة بالشكر. ثم عاد يشرح أكثر. ثم بدأت تضع ردودًا على كل تعليق له. بعد أسبوع صار كلاهما ينتظر الآخر في نفس المنشورات. لم يحدث شيء صريح، لكن الحديث صار عادة. وفي العادة يكمن الخطر.

القصة الثانية: “الخاص من أجل الاستشارة”
سألت فتاة في الخاص عن مصدر حديث. أجابها الشاب، ثم قالت: “أنت تفهم كثيرًا، هل يمكن أن أسألك دائمًا؟” صار السؤال يتكرر يوميًا. وبعد مدة صار الحديث يتجاوز العلم إلى المشاعر. المشكلة لم تكن في السؤال الأول، بل في تحويل الخاص إلى قناة دائمة.

القصة الثالثة: “حسن نية… ثم ضغط”
كان الحوار حول مشروع خيري. مع كثرة الرسائل صار أحد الطرفين يتوقع ردًا سريعًا دائمًا. ومع التأخر يبدأ العتاب. هنا تتبدل النية من خدمة مشروع إلى تعلق واستحواذ. والشيطان يستغل هذه المساحات الصغيرة.

“لكننا نتحدث في الدين!”

هذا اعتراض شائع: إذا كان الكلام عن الدين فكيف يكون خطرًا؟ والجواب أن موضوع الحديث لا يمنع تحول التواصل إلى تعلق؛ بل قد يزيده لأن الحديث في القيم والمشاعر الروحية يعطي إحساسًا بالعمق والتوافق، فيتوسع الكلام من المعرفة إلى “فضفضة”، ومن الفضفضة إلى اعتماد نفسي. لذلك تبقى الضوابط قائمة مهما كان عنوان الحديث.

مبادئ الأدب الرقمي التي تحفظ القلب والسمعة

  1. النية قبل الضغط على “إرسال”: هل أبتغي نفعًا أم أبتغي اهتمامًا؟

  2. قدر الحاجة: لا تجعل الكلام مفتوحًا بلا سبب.

  3. الوضوح بلا تليين: اختر كلمات محترمة بلا تلميح وبلا تلطّف زائد.

  4. الشفافية: إذا احتجت لإخفاء الحوار فراجِع نفسك.

  5. لا تُراكم علاقة: لا تجعل شخصًا بعينه مركز يومك الرقمي.

  6. سدّ الذرائع: اقطع الطريق على ما يُتوقع أن يقود للحرام.

الخلاصة: أين الحد؟

الحد يبدأ عندما يتحول التواصل من “معلومة/حاجة” إلى “تعلّق/عادة/قصة”. كثير من الناس لا يسقطون في خطأ كبير دفعة واحدة؛ بل يقتربون خطوة خطوة حتى يصبح الرجوع صعبًا. لذلك الحكمة ليست في البحث عن أقرب نقطة من الحافة، بل في بناء سلوك رقمي يحفظ القلب ويصون الكرامة ويمنع أبواب الفتنة.

ومع كثرة المنصات وتنوعها، يبقى اختيار بيئة تساعد على الانضباط خطوة عملية مهمة. فحين تكون آليات النقاش أقل قابلية للاختلاط المربك، وحين تقل فرص “الخاص بلا حاجة” وتبادل الإشارات، يصبح الالتزام أسهل. ولهذا يفضّل بعض المستخدمين منصات أو مساحات رقمية تُراعي الأدب في طريقة تنظيم النقاش، بحيث تقل مساحة الالتباس ويبقى الكلام أقرب إلى المقصود وأبعد عن الزائد.‬