بعد أقل من شهر يحل علينا عام جديد، يحل وقد أدركت أنني إنسان قديم. أدركت ذلك عندما لفت أحد الشباب نظري إلى أنني أستخدم علب الثقاب، بينما يستخدم الجميع القداحات. بعدها بيومين نبهتني فتاة في مقتبل العمر قائلة :" أنت مازلت تستعمل مناديل من القماش وليس الورق؟ لقد ولى زمن هذه المناديل". أخيرا تيقنت أنني قديم أنتسب إلى زمن آخر عندما ركبت تاكسي من شارع عدلي وحين اقتربت السيارة من محطة البنزين في نهاية الشارع قلت للسائق الشاب: " أتعلم .. لقد رأيت عبد الحليم حافظ للمرة الأولى هنا، في هذه المحطة، عام 1966 ، كان واقفا يزود سيارته بالوقود "، فلوح الشاب بكفه ومط كلماته متعجبا : " ياه يا بيه .. ده أنت قديم قوي"! حينذاك اعترفت أمام نفسي بالحقيقة، ولم يبق سوى أن يعلقوا لافتة تتدلى من رقبتي:" صنع في مصر عام 1948". ولأنني عتيق فقد سجلت كل الأغاني القديمة التي أحبها على فلاشا، أستمع إليها كلما أحسست أنني غريب بمناديلي وعلب الثقاب وذكرياتي واصدقائي الذين رحلوا. وقد اخترت الأغاني كلها بعناية، كأني أختار نغمات صغيرة من أوتار الزمن. أستمع إليها فأجد نفسي ثانية. أغنية : " داره قصاد داري وهو مش داري" لعبد الغني السيد، و" احتار خيالي" لعبد الحليم، وغيرها، ويحضرني من رحلة العمر أن ثمت نساء دخلن القلب مثل وردة، وخرجن مثل خنجر، ولم يبق منهن سوى الأغنيات والأحلام، فأتوقف عندد الأغنيات وأدعو نبض قلبي للصحو، خاصة الأغنيات التي كتبها فتحي قورة متعجبا من ادراكه لقالب الأغنية، وأن الأغنية من ناحية لا تنتسب إلى الشعر، ولا ينبغي أن تكون لأنها تخاطب جمهورا واسعا، لكن على الأغنية في الوقت ذاته أن ترتشف قطرة رائقة من الشعر تواصل بها عبورها إلى القلب. توقفت طويلا أمام كلمات أغنيته الرائعة لحن العبقري محمود الشريف " كل العيون حواليك شاغلها سحر عنيك.. ما بقاش مكان لعنيه تبص منه عليك.. فاتت سنين وأيام بشقاها وفرحها.. ولا أي عين بتنام.. وتسيب لي مطرحها.. حتى الخيال حجبوه.. وفي كل حلم فاتوه.. وسابوني وحدي أتوه.. في دنيا ملك إيديك". وأقول لنفسي : " نعم. هناك نساء يدخلن القلب مثل عطر رقيق، ويخرجن مثل عاصفة. أليس هذا هو شعر الأغنية بكل عذوبته؟ وبكل اقترابه ثم ابتعاده عن الشعر؟ لم تكن مصادفة أن يتوقف الأديب الكبير يحيي حقي عند فتحي قورة وأن يكتب عنه: " لا أعرف أحدا يداني فتحي قورة في خفة دمه ولا في القدرة على نصب شباك القوافي العسيرة والخلاص منها خلاص الشعرة من العجين". أستعيد أغنيات كتبها قورة لأكبر المطربين مثل " أمانة عليك يا ليل طول" لعبد الغني السيد، و" مال القمر ماله " لمحمد فوزي، و" يا سيدي أمرك " لعبد الحليم، وغيرها. أجلس وتسكنني المرأة التي تخرج مثل خنجر على جنبيه ذكرياتي، وآمالي، وأمد يدي إلى علب الثقاب وليس القداحات، وأستخدم مناديل من القماش وليس الورق، وما إن يعلو صوت الأغنيات حتى يرف أمل أبيض مشبعا بالنور، وتهزني الحماسة والأماني ويدق قلبي بعنفوان. لست قديما مادام القلب ينبض بالأمل.