شاهد ..تفسير قوله تعالي رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير

خرج موسى عليه السلام من مصر لما علم أن فرعون يريد قتله ، وتوجه إلى مدين بفلسطين ، ولما وصل مدين وجد أناس يسقون مواشيهم ، ووجد من دونهم امرأتين تحبسان غنمهما حتى ينزع الناس وخلو لهما البئر ، لعجزهما عن مزاحمة الرجال ، وأبوهما شيخ كبير ، وليس لهما رجال يزاحمون الرعاء ، فرق لهما موسى عليه السلام ورحمهما ، ( فسقى لهما) غير طالب الأجرة منهما ، ولا له قصد غير وجه الله تعالى ، فلما سقى لهما ، وكان ذلك وقت شدة حر ، وسط النهار ، بدليل قوله : ( ثم تولى إلى الظل ) مستريحا لتلك الظلال بعد التعب (فقال) في تلك الحالة مسترزقا ربه : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) ، أي : إني مفتقر للخير الذي تسوقه إلي وتيسره لي . وهذا سؤال منه بحاله ، والسؤال بلسان الحال أبلغ من السؤال بلسان المقال ، فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا : رب لما أنزلت إلي من فضلك وغناك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك ، وقد روى أكثر المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله ، فالخير يكون بمعنى الطعام كما في هذه الآية ، ويكون بمعنى القوة كما في قوله : ( أهم خير أم قوم تبع ) ، ويكون بمعنى المال ( وإنه لحب الخير لشديد ) ، ويكون بمعنى العبادة ( يسارعون في الخيرات) ، وموسى عليه السلام لم يصرح بالسؤال ، وإنما طلب إنزال أي خير قليل أو كثير ، فدل هذا الكلام على الحاجة إلى الطعام أو إلى غيره ، إلا أن المفسرين حملوا هذا الكلام على الطعام .العمل بالقرآنعندما خرج موسى عليه السلام من مصر لم يكن له طعام إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيا فما وصل إلى مدين حتى سقطت باطن قدميه ، وجلس في الظل ، وهو صفوة الله من خلقه ، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع ، وإنه محتاج إلى شق تمرة ، ومع ذلك لم ير عليه السلام أن ذلك له إهانة وهو نبي الله ، فلم يجزع ولم يتسخط لما حل به ، لأنه يعلم تمام العلم أن في ثنايا ذلك الابتلاء خير كثير ، وإنما السعيد من وفق لرؤية ذلك ، وعلق قلبه بربه كما فعل موسى عليه السلام حيث دفعه حاله ذلك لمزيد من الافتقار إلى الله عز وجل ، فآوي - أخيتي - إلى الركن الشديد والظل الظليل والحمى الآمن ، وناجي ربك وعمقي اتصالك ب ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) .لتتعلمي من الحال التي وصل إليها موسى عليه السلام من الجوع والفقر هوان الدنيا على الله ، وتتعاملي معها على هذا الأساس ، فلا تعظمي ما هو مهين عند الله ، ولتكن أفعالك خير دليل على ذلك ، فلا يكفي أن تقولي ذلك بلسانك ، و تأتي بأفعال تدل على تعظيمك للدنيا وكأنها دار الخلود .موسى عليه السلام كان سلاحه الإخلاص لله عز وجل في العمل ، والافتقار إلى الله عز وجل ، حيث أنه لما سقى للمرأتين لم يرد منهما أجرا ، وإنما أراده من الله عز وجل ، ولم يدر بخلده أن المرأتين ستذكرانه عند أبيهما ، أو أن الخير الذي طلبه من ربه سيأتيه على أيديهما ، وإنما فعل ذلك مخلصا لربه ، مفتقرا إلى ربه تمام الافتقار ، حيث أنه لم يحدد حتى ما يريده ، وفي ذلك تمام التسليم لله عز وجل ، والرضا بكل ما يسوقه إليه لأنه يعلم أنه لا يأتيه إلا بالخير المناسب لحاله ، وعلى قدر الإخلاص والتوكل يكون المدد من الله لعبده ، فأخلصي لله عز وجل وأحسني الظن فيه وتوكلي عليه وقوي رجاءك فيه يأتيك من الخير ما لا يخطر لك على بال.رغم تعب موسى عليه السلام من سفره ، وجهده وجوعه ، وغربته في أرض مدين ، وكونه مطاردا من فرعون ، إلا أن ذلك لم يثنيه عن مساعدة المرأتين ، والعمل بما تقتضيه شهامته ومروءته ، فحاولي أن تتشبهي بموسى عليه السلام ، في تلبية دواعي النجدة والمعروف لكل من احتاجك ، أو علمتي من نفسك القدرة على مساعدته حتى لو لم يطلب منك ذلك ، مهما كانت ظروفك ، رغبة في المعروف ، وإغاثة للملهوف ، وانتهزي الفرص ، واقتدي بالصالحين في ذلك .موسى عليه السلام سقى لهما ثم تولى إلى الظل ، وذلك هو حال من يريد الآخرة ، التخفي وعدم حب الظهور والسير في الظل ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ) .نادى موسى عليه السلام الله عز وجل باسمه الرب ، المتولي للتربية والرعاية فقال : يا رب أنا عبدك وقد جئت بي إلى هذا الكون وأنا جائع أريد أن آكل ، فأنزل عليه السلام حاجته بربه ، عن مجاهد قال : ( ما سأل ربه إلا الطعام ) ولكن عطاء الله لا حدود له .انسبي كل ما بك من نعمة لله عز وجل ، فإن موسى عليه السلام نسب النعمة إلى الله حيث قال : ( أنزلت ) أي : أن الخير منك في الحقيقة ، وإن جاءني على يد عبد مثلي ، لأنك إن تسلسلي أي خير في الدنيا ، فإنه لا بد أن ينتهي إلى الله المنعم الأول .ما أسرع فرج الله على القلوب المملوؤة بالافتقار إليه ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) وذلك مباشرة بعد قوله : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) .صنائع المعروف تجلب للإنسان الخيرات ، خصوصا إذا صاحبها الإخلاص لله عز وجل ، فإن موسى عليه السلام ساعد المرأتين ، فكافأه الله على صنيعه في الدنيا قبل الآخرة بإنزال الخير إليه ، فكان سقيه ماشية المرأتين سببا في دعوته وتناوله الطعام عند أبيهما ، وإجابة لدعائه ومناجاته ربه ، ولما كان موسى عليه السلام قد ساعدهما رقة لهما ورحمة بحالهما فإن الله سبحانه وتعالى قد نظر إليه بعين رحمته و رحم حاله كما رحم حالهما ، فإن الجزاء من جنس العمل .لم يذكر الله عز وجل المفعول في )يسقون ( ، (تذودان ) ، ( نسقي ) لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ، فإن كون المذود والمسقي إبلا أو غنما خارج عن المقصود ، وهذا هو منهج القرآن في الإعراض عن ذكر ما لا فائدة في ذكره ، فاستعملي هذا المنهج في حياتك ، وأعرضي عن كل ما لا فائدة فيه ، واشتغلي بالمهمات عن ما ليس في الاشتغال به فائدة .أنزلي حاجتك وفقرك بالله وحده ، فإنه سبحانه وحده يملك إغناءك ، ولا تجعلي قلبك يشعر ولو للحظة بأنه محتاج إلى غير ربه ، فإن موسى عليه السلام لما سقى للمرأتين كان بإمكانه أن يطلب الأجر منهما على ما فعل ، مع جواز ذلك ، ولكنه لم يلتفت إلى ذلك البتة ، وإنما جمع قلبه على الله وأنزل حاجته به وحده .) رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ( دعاء جميل لا يترك .المراجعتفسير السعدي ، ابن كثير ، الطبري ، القرطبي ، الشعراوي ، في ظلال القرآن ، الكشاف للزمخشري ، التفسير المنير ، أيسر التفاسير للجزائري ، التفسير الوسيط .