الصباح العربي
الإثنين، 29 أبريل 2024 06:48 صـ
الصباح العربي

فن وثقافة

أحمد الخميسي يكتب: لغة يحيي حقي في يوم اللغة

الصباح العربي

في يوم اللغة العربية العالمي 18 ديسمبر لابد من التوقف عند لغة يحيي حقي الأدبية التي طرحت مفهوما مبدعا لقضية اللغة. كل الأدباء قبل ومع وبعد يحيي حقي قاموا بتطوير اللغة القائمة بالفعل، حذفوا منها، وأضافوا إليها، لكن يحيي حقي طرح شيئا جديدا تماما لم يصل إليه سواه، حين سعى بدأب لوصل لغة الحياة بلغة المعاجم، واكتشاف لغة المعاجم في اللهجة العامية، فخلق همزة وصل بين عالمين يبدوان كأنهما على طرفي نقيض. انظر إليه مثلا حين يقول : " تباهي القرعاء بشعر بنت أختها" وهي عبارة صحيحة فصيحة مئة بالمئة ولكن روحها كاملة مأخوذة من العامية. أو حين يستخدم بمطلق الثقة والتمكن عبارة مثل : " عقله فسافيسي"، وهي الجملة التي تبدو عامية تماما، بينما هي فصيحة لأن المعاجم تشتمل على : رجل فسفاس أي شديد الحماقة. ويقول: "حياة فلان سبهللا" وهي من روح العامية، لكنها فصيحة أيضا، لأن المعاجم تقول: مشى الرجل سبهللا ، أي مختالا يروح ويجيء بلا عمل! وهو يكتب : " كلامه فاشوش في فاشوش" وفي المعاجم سنقرأ أن الفاشوش من الأشياء هو ما لا فائدة منه. يقوم حيي حقي بكشف الفصيح في العامية، ورفع العامية إلى اللغة الفصيحة، ومد همزة وصل بين العالمين، وهو هنا يرى أن اللغة تخضع للحياة وتتبعها وتخدمها، فإذا كان الناس في الحياة يقولون " تليفون" فلا ترغمهم على قول " مسرة "، وإذا كانوا يقولون " تلفزيون" فلا تجرهم بالقوة إلى عبارة " المرئي"، إذ لابد للغة من أن تشرب وجودها من الحياة، لكن بحيث لا نفقد لغتنا في الوقت نفسه. ولا يكون الحفاظ على اللغة، مع جريان حيويتها، إلا باكتشاف الصلة القوية بين العامية منها والفصيحة. لقد كان أقصى جهد توفيق الحكيم في ذلك المجال هو الدعوة إلى الكتابة بلغة فصيحة بسيطة بعيدة عن المهجور والمكرور، وكان كل جهد نجيب محفوظ في اللغة هو تطوير اللغة القائمة بالفعل، أي تفادي القديم منها وما لم يعد له معنى، حتى أن محفوظ ظل يكتب " النادل" زمنا طويلا إلى أن كف وراح يكتب " الجرسون"، وكان حتى الثلاثية يلجأ إلى السجع مثل قوله : " لكن الزمان عدو لدود للورود " والسجع أحد أقدم الأساليب البلاغية التي توارت. أما حقي فكان مبدعا حقا في اصراره على اكتشاف الصلة أدبيا ولغويا بين العامية والفصيحة. انظر على سبيل المثال قوله في مجموعة " دماء وطين" : " تقول ورق المطبخ ينفع في المطبخ وللدواليب، وتسد به الخروق"، ستجد أنك تقرأ هذه الكلمات كأنك تستمع إلى امرأة من البيت أو في الشارع، ومع ذلك فإن كل الكلمات فصيحة. وهذا الكاتب العظيم يستخدم بوعي كلمة شهيرة عندنا هي " الجعيص" التي تقال إشارة للرجل القوي الشديد، ويقولون في ذلك " قاعد مجعوص"، وما شابه، فإذا فتشت في المعاجم ستجد أن الكلمة هناك من صميم اللغة الفصيحة وهي في المعجم الوسيط : " الجعيس" أي الشخص الغليظ الضخم ! لقد وازن يحيي حقي بعبقرية بين ضرورة الحفاظ على اللغة العربية وضرورة الانصات لما تمليه علينا الحياة من كلمات واستخدام فخلق ضفيرة لا تتكرر وأعطى درسا لم نحظى به من غيره. وبهذه المناسبة فإن هناك كلمات بلا عدد ننطقها ونحن نتوهم انها عامية رغم أنها من صميم اللغة الفصيحة مثل: باسها ( بمعنى قبلها )، وبص (بمعنى نظر) وخس ( قل وزنه) وخش المكان( دخله)، وزعل (بمعنى غضب) وغير ذلك. في يوم اللغة العربية نحن في أمس الحاجة إلى الارتكاز على مفهوم اللغة عند يحيي حقي المبدع العظيم.

أحمد الخميسي يكتب لغة يحيي حقي في يوم اللغة

فن وثقافة

click here click here click here altreeq altreeq