نبيل عبد الفتاح يكتب: الشرعية الدستورية والشرعية السياسية

هل الحديث عن الشرعية الدستورية والسياسية هو جزء من الجدل النظرى الذى يهتم به أهل التخصص فى العلوم السياسية والدستورية والمثقفين، ومن ثم لا شأن لغالب المواطنين به؟ ولماذا تطرح مسألة الشرعية فى ظروف إقليمية ودولية ووطنية تتسم بالاضطراب وعدم الاستقرار، وتفاقم مشكلات الدولة وسياساتها؟، وفى ظل اختلالات كبرى يعانى منها النظام الاجتماعي، من احتقانات وصراعات وانقسامات سياسية وفئوية «وطبقية» حادة، فى ظل عسر اجتماعى للفئات الشعبية العريضة؟.
لوهلة قد يبدو أن قضايا الشرعية عمومًا هى جزء رئيس من اهتمامات النخبة السياسية والثقافية، وأن «المواطنين» عمومًا لديهم اهتمامات تتمحور حول تفاصيل حياتهم اليومية، وسعيهم للتحايل على المعاش، والهرولة المرهقة للحياة عند الحافة! إلا أن إمعان النظر يشير إلى التغير النوعى فى اتجاهات عديد الشرائح داخل الفئات الاجتماعية المختلفة، عقب الانتفاضة الثورية فى 25 يناير 2011، وفى مواجهة نمط من الحكم الدينى فى ظل الإخوان المسلمين ورئيس الجمهورية، والسلفيين، لا يأبه كثيرًا بقضايا الشرعية الدستورية والسياسية، ومن ثم إصداره بعض الإعلانات الدستورية لا سيما إعلان 22 نوفمبر 2012 المكمل الذى وصف بالقرارات الثورية، وعلى رأسها: جعل القرارات الرئاسية نهائية غير قابلة للطعن من أى جهة أخرى كالمحكمة الدستورية العليا منذ توليه الرئاسة حتى إقرار دستور جديد وانتخاب مجلس شعب جديد. وهو ما يمثل اعتداء صارخاً على استقلال السلطة القضائية والقضاة.
تعيين النائب العام من أعضاء السلطة القضائية بقرار من رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات تبدأ من تاريخ شعل المنصب، وهو انتهاك للتقاليد والأعراف القضائية.
شكل هذا الإعلان نقطة تحول كبرى فى اتجاهات غالب مكونات الرأى العام بمختلف شرائحه الطبقية واتجاهاته السياسية، وكان أحد محفزات ومحركات الانتفاضة الكبرى ضد الحكم ذى التوجهات الدينية السياسية للإخوان والسلفيين. هذا التغير النوعى كان جزءًا من تراكمات الآثار السلبية للسياسات والقرارات التى كانت تصدر، ومنها على سبيل التمثيل لا الحصر، بعض نصوص دستور 2012 ذات الطابع الدينى المحض التى تغير من طبيعة الدولة المصرية وقوانينها الحديثة، وحصار مجلس الدولة، وتطويق المحكمة الدستورية العليا من الإخوان والسلفيين. والأداء البرلمانى للقوى الدينية الذى كان ينتهك استقلال القضاء، ويعتدى على حصاناته. هذا النمط من الممارسات اللادستورية والقانونية والسياسية كانت كاشفة عن ضعف ثقافة الدولة الحديثة وقيمها السياسية والدستورية وتقاليدها لدى قيادات جماعة الإخوان والسلفيين معًا، فضلا عن محدودية مهاراتهم السياسية. من ثم حدث تغير كبير فى البنية النفسية، والتوجهات السياسية داخل مكونات الأمة المصرية، وهو الأمر الذى لايزال غائمًا أو غائبًا لدى بعض قادة النخبة السياسية المصرية فى الحكم والمعارضة معًا، حيث إن قضايا الشرعية السياسية والدستورية باتت مهمة فى حياة المصريين، لأنها تمس القرارات السياسية والاجتماعية والتشريعات الماسة بشروط حياتهم، وأنها باتت مرتبطة بمصائرهم واستقرار الدولة والمجتمع، وأمنهم. ثمة شيوع لمعنى أن الحياة فى مجتمع عصرى ودولة / أمة يتطلب احترام الإرادة العامة للأمة فى تسيير أمور وشئون البلاد من خلال القواعد الدستورية العليا، واحترامها وإعمال أحكامها فى السلوك السياسى، والإدارى اليومى للدولة ومؤسساتها، وأن انتهاك مبدأ المشروعية الدستورية فى عمومه أو تفصيلاته، يقتضى اللجوء إلى القضاء الإدارى أو الدستورى للطعن على هذه القرارات أو الاتفاقيات الدولية.
من هنا تبدو الدفوع القانونية التقليدية بعدم اختصاص مجلس الدولة والقضاء الإدارى بنظر الطعون على بعض القرارات أنها من أعمال السيادة، هو إعادة إنتاج للثقافة الدستورية التى سادت فى ظل التسلطية السياسية والقانونية لنظام يوليو 1952 فى المرحلتين الناصرية والساداتية بينما تغيرت فى فرنسا ومصر منذ الطعون على قرارات أزمة سبتمبر 1981. من هنا يبدو من الأهمية بمكان فى ثقافة رجال الدولة الوعى بأهمية هذه التغيرات الكبرى فى المبادئ الدستورية والقانونية التى استقر عليها القضاء المصرى فى أعلى مستوياته وهياكله، لأنها هى التى تحدد مناط الشرعية الدستورية والقانونية، ومن ثم دولة القانون.
ثمة غياب للرؤية، ومناهج العمل والسلوك القانوني، سواء فى طرح القضية على الرأى العام الذى بات فاعلاً ويقظًا، أو فى خطة الدفاع أمام القضاء، والارتباك الكاشف عن اختلال ما فى أساليب العمل القانوني. من ناحية أخرى عدم إيلاء مبدأ الفصل بين السلطات والتمايز الوظيفى بين بعضها بعضًا الأهمية المركزية فى خطة العمل، ومن ثم بدا واضحًا ضعف الأداء السياسى والقانون الذى أدى إلى الصراع بين السلطات الثلاث، وترتب على هذا الأداء المختل تفاقم الاحتقانات السياسية فى ظل ظروف اقتصادية واجتماعية وأمنية بالغة الصعوبة، وهى أمور تؤدى إلى تآكل التوافق الجماعي.
من هنا يبدو خطأً عدم استصحاب المبادئ التأسيسية المحركة للدولة الحديثة ومؤسساتها السياسية وأجهزتها، وعلى رأسها الشرعية الدستورية والسياسية والفصل بين السلطات.
نقلا عن صحيفة الأهرام