السبت 5 يوليو 2025 11:48 مـ 9 محرّم 1447 هـ
×

بط أبيض صغير.. قصة أحمد الخميسي

الثلاثاء 14 مارس 2023 08:07 صـ 21 شعبان 1444 هـ

من قبل كنت أتابع كل شئ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ. توقفت منذ شهور طويلة عن شراء الصحف، أية صحف. لم أعد أفتح التلفزيون. توقفت عن توقيع البيانات السياسية، وتوقفت عن النقاش فيما يحدث حولنا. أخبار الأحداث السياسية الهامة صرت أتسقطها من أفواه معارفي خلال مكالمات هاتفية عابرة أو لقاءات بالمصادفة وسط المدينة. قلت لنفسي: لا شئ يتغير إلي الأفضل. وكنت أعلم أنني مخطئ، وأن ما أقوله يعني أنني لا أرصد التغيرات بدقة. فلابد أن هناك أشياء تتحرك إلي الأحسن وأنا لا أراها. توقفت عن الكتابة في القضايا السياسية حتى عندما ضربت رفح على حدود مصر ضربا وحشيا، وتهدم من غزة ما تهدم، وفقد ثلاثمائة ألف فلسطيني دخولهم.

من قبل كنت أتابع كل شئ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ، لكنني بحكم العادة والفضول القديم أشغل التلفزيون من حين لآخر، أشاهد فقط مقدمة النشرة الإخبارية التي تستغرق أقل من نصف الدقيقة، وخلال ذلك، مثل الماء الذي ترفع عنه السدود فجأة، تتدفق نعوش أطفال الفلسطينيين من شاشة التلفزيون إلي صالة بيتي، يحملها الناس وهم يهرولون بها قبل أن تشن عليهم غارة جديدة. أغلق التلفزيون وأندم أنني فتحته. لكن طوفان الأطفال الذين ينظرون إلي بلوم يكون قد سرى من الشاشة الصغيرة وشغل كل فراغ في شقتي. طوفان ينظر إلي بعتاب، وعدم فهم، نظرة مذنبة، مشبعة بالرجاء لأنه احتمي بمنزلي دون استئذان، وشغل كل المساحات الشاغرة بين قطع الأثاث في غرفة مكتبي وغرفة نومي وفي الردهة الممتدة من الصالة إلي الحمام والمطبخ. يستريح الأطفال قليلا من جحيم القتل اليومي، ويألفون المكان، ولا يغادرون شقتي، لأن الدنيا في الخارج مرعبة. وما إن أنهض من مكاني لأنتقل إلي غرفة أخرى حتى يسارعون بالسير خلفي مثل سرب من البط الأبيض، ويتبعون خطواتي أينما توجهت برؤوسهم المشجوجة، والشاش الأبيض الذي يربط الفك السفلي بأعلى الرأس، كأنه شريط يطوق هدية مرفوعة إلي السماء.

صفوف طويلة من البط الأبيض الصغير تسكن معي منذ شهور طويلة، وتتبعني كأنها وجدتني وتخشى أن تفقدني الآن، تتنقل ورائي من غرفة لأخرى، وتسارع بالتكدس حول قدمي في المطبخ، وحين أغادر المسكن يقف البط الأبيض الصغير عند باب الشقة صفوفا، يتأملني برقابه النحيلة الطويلة، يهز رأسه قليلا، ومنقاره السفلي مثبت بقطعة شاش إلي رأسه، ينظر إلي صامتا، يتساءل إن كنت سأعود إليه أم لا ؟. أعود في المساء، وأفتح الباب، فتخفق أجنحة البط الصغير في الهواء، وتضطرب صيحاته في جو الصالة، وتسبح أياد، وعيون مغلقة، وعيون مفتوحة، كراسات، وأقلام، وأحذية وصنادل صغيرة. أخطو بين الصفوف البيضاء محاذرا نحو غرفة المكتب، وتتكدس الصفوف ورائي. أقف عند باب الغرفة، وألوح بيدي له أن ينصرف، أريد أن أصرخ فيه، لكنه يظل واقفا، صامتا. في الليل يملأ البط الأبيض كل موضع في غرفة نومي، يجلس فوق صوان الملابس، وعند حافة النافذة، وعلى أطراف سريري، فإذا حركت ذراعي أو تقلبت على جنبي ارتطمت به. أتطلع إليه، فيحدق بي، بصمت ورهبة وأمل.

منذ شهور طويلة، وأنا أشعر أن واجبي الأول أن أعيد تلك الصفوف من البط الأبيض إلي هيئتها البشرية الأولى، والى جلودها الغضة وصيحاتها، وأن على بكل ما أوتيت من قوة أن أفك عنها السحر الذي ربطها أمامي هكذا. منذ شهور طويلة وأنا لا أتعرض للأوضاع السياسية بكلمة. لأن شيئا لا يتبدل ، ولأن كل ما يقال معروف تماما. صرت أهرب من كل ذلك إلي الكتابة في النقد الأدبي، أكتب وأحس بالخجل لأن صوت القنابل الإسرائيلية يكاد أن يصل لأذني، ويكاد زجاج نوافذ شقتي أن يرتج منه، ولكني أسد أذني، وقلبي ، وأستمر في الكتابة. ثم أخرج قليلا أتجول في الشوارع القريبة. أعود وأفتح الباب فتلقاني الأجنحة البيضاء التي تخفق في الهواء، وتلك النظرات، والمناقير المربوطة بقطع الشاش الأبيض. فأشعر أنني كنت أهرب، كأنني جندي تسلل خلال القصف، وترك زملاءه وحدهم هناك، وهبط من التل المشتعل بالنار، ثم شق طريقه بين أشجار الغابات البعيدة. يقول لي البعض:" الحياة لا تتوقف، والصحافة، والكتابة مهام ضرورية لا تتعطل". أقول لنفسي:" بالطبع. يد محترقة لا تمنع اليد الأخرى من تناول الطعام". لكن لماذا أحس بمرارة وأنا أكتب، أو حين ألتقي بالأصدقاء القلائل؟ أوعندما أشرب كوب الماء وأرى صفوف البط الأبيض تتطلع إلي؟ أنظر إليها وأهتف فيها: وهل أنا المذنب؟ هل أنا الذي يلقي بالقنابل كل يوم على الأطفال؟ هل أنا وحدي الذي ينبغي له أن يفك السحر الأسود عن تلك الكائنات البيضاء الصامتة؟.

منذ شهور طويلة توقفت عن متابعة أي شئ. كل ما أفكر فيه الآن تلك الطيور البيضاء التي تواصل نموها في مسكني، وتتخبط حولي، وتمنعني من التنفس أو تناول الطعام وتدفعني إلي أن أربط بشريط فكي السفلي بأعلى رأسي، ثم أقف متجمدا بين صفوفها، وأرفع رقبتي النحيلة لأعلى، أمشى بينها في الغرف الفارغة الصامتة على أمل أن تطرق الباب علينا يد بشرية .