الصباح العربي
الأحد، 28 أبريل 2024 09:16 صـ
الصباح العربي

مقالات ورأى

عبد الحليم قنديل يكتب: أفريقيا تخلع فرنسا

الصباح العربي

انقلاب "الجابون" الأخير هو الثامن من نوعه في غرب أفريقيا منذ 2020، وجاء بعد شهر وأيام من انقلاب "النيجر" ، مع اختلاف ظروف البلدين ، فالنيجر عدد سكانها كبير نسبيا (27 مليون نسمة) ، وعظيمة الفقر والشقاء على غنى مواردها الطبيعية من اليورانيوم والذهب، بينما "الجابون" دولة صغيرة سكانيا (2.3 مليون) ، ومتوسط دخل الفرد فيها يصل إلى تسعة آلاف دولار سنويا، بسبب امتيازها البترولي كخامس منتج في أفريقيا ، إضافة لموارد طبيعية أخرى بينها "المنجنيز" والأخشاب، وما من عدالة ولا مشاركة فيها، برغم نظامها متعدد الأحزاب متوالي الانتخابات، وتحكمها عائلة واحدة منذ 56 سنة (!).

والقاسم المشترك الأعظم بين "النيجر" و"الجابون" وسواهما على امتداد الساحل والغرب الأفريقي ، هو الميراث الثقيل للاستعمار الغربي، والتغول الوحشي الفرنسي بالذات ، فقد ظلت "الجابون" ـ وجوارها ـ تحت احتلال برتغالي فرنسي لمئات السنين، وكانت كغيرها من مراكز قنص ونزح العبيد إلى أمريكا عبر المحيط الأطلنطي ، وجرى محو الهويات الثقافية الأصلية لسكانها ، ودفعهم للانتساب قسرا إلى فرنسا ثقافة ولغة ودينا ، فيما ظل 1% لا غير من السكان على الدين الإسلامي، مع نسب أخرى على دياناتهم الطبيعية الأفريقية.

ومع الاستقلال الإسمي للجابون مع "النيجر" عام 1960 ، حكم "ليون إمبا" ، وإلى أن وقع البلد في حجر "عائلة بونجو" الموالية تماما لفرنسا ، فقد صعد "عمر بونجو" إلى الرئاسة عام 1967 ، وظل في الحكم إلى أن توفى عام 2009 ، واتخذ لنفسه اسم "عمر" بدلا من "ألبرت" مع اعتناقه الإسلام عام 1973، لكن ظل على حاله كحاكم "شهرياري" متكبر، يحكم بإرادته المنفردة ، ويترأس ـ للمفارقة ـ حزبا أسماه الحزب "الديمقراطي" ، وعبر حزبه "الملاكي" ، انتقل الحكم عائليا لابنه "علي بونجو" ، الذي حكم لمدة 14 سنة ، ولم تعقه حوادث إصابته بجلطة دماغية عام 2018 ، ولا انقلاب عسكري أجهضه عام 2019 ، وإلى أن جاء أجله السياسي مع الانقلاب الأخير ، وذهب مع أعضاء حكومته وعائلته وحزبه إلى العزلة ، غداة إعلان فوزه في الانتخابات بفترة رئاسة جديدة ، وهو ما اعتبر صدمة إضافية لفرنسا بعد انقلاب "النيجر" ، وما جرى قبله من انقلابات في "غينيا" و "مالي" و"بوركينا فاسو" ، وما قد يأتي بعدها من انقلابات ، ومن ذات الجيوش ، التي تدرب فرنسا ضباطها ، وتحتفظ في بلدانها بقواعد عسكرية برية وجوية ، فلفرنسا قاعدة جوية في "الجابون" ، يعمل فيها 370 جنديا فرنسيا ، وفى "النيجر" وجود فرنسي أكبر بكثير ، وفي البلدين مع غيرهما ، تحتكر شركات التعدين الفرنسية أغلب الموارد ، وإن كان انقلاب "النيجر" أوقف توريد "اليورانيوم" إلى مفاعلات فرنسا الذرية الكهربية ، فإن شركة التعدين الفرنسية "إيراميت" اختصرت الطريق ، وعلقت فور الانقلاب أعمالها في "الجابون" ، التي دخلتها "الصين" من سنوات كشريك تجاري واستثماري رئيسي، وتشتري من "ليبرفيل" ـ عاصمة الجابون ـ بترولا قيمته 4 مليارات دولار سنويا، وبما لا يترك للوجود الفرنسي قيمة اقتصادية كبيرة ، فوق أن فرنسا التي تنهب "الجابون" ومعادنها ، تسند هناك "حكم دمى" ، على حد وصف "جان لوك ميلانشون" زعيم حزب "فرنسا الأبية" اليساري المعارض، وقد ولد "ميلانشون" نفسه في مستعمرات فرنسا الأفريقية، وتناسل آباؤه وأجداده في الجزائر والمغرب ، واعترافه بجرائم فرنسا يحرج خصمه الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" ، الذي جمعته صور احتضان حميمي مع الرئيس الجابوني المخلوع "عمر بونجو" المتزوج من فرنسية، وواصل سيرة أبيه في منح ثروات "الجابون" كهدايا نفيسة لرؤساء فرنسا المتتابعين، من "جاك شيراك" إلى "ماكرون" ، فلا تزال فرنسا تنظر لمستعمراتها الأفريقية ـ السابقة ـ كبقرات "حلوب" ، وتضئ بيورانيوم "النيجر" ـ وغيرها ـ مدنها وقراها، وتصنع من معادنها وأحجارها الكريمة "إكسسوارات" بيوت الأزياء، وتصور "باريس" كأنها عاصمة النور ، بينما قد لا تنافسها مدينة عالمية أخرى في نشر الظلام والقبح ، فما من مقدرة على إحصاء عدد قتلاها وضحاياها ، وهم بالملايين في أفريقيا ، ولا تعداد صنوف القهر والاستعباد التي مارستها بتلذذ سادي، ولا محو هويات السكان الأصلية وتصويرهم كقرود ، علمتهم النطق باللغة الفرنسية، واعتبرت نفسها مكلفة بإدارة حياتهم البائسة، واصطفاء حكامهم من الحواشي الفرنسية المفضلة، وتنصيبهم عبر انقلابات أو بانتخابات، والتبجح بما تسميه حماية الديمقراطيات الناشئة ، ودعم أمثال "محمد بازوم" و"علي بونجو" ، بدعوى أنهم ديمقراطيون ومنتخبون ، بينما الحقيقة الظاهرة للكافة، أن فرنسا تعتبر الانقلابات الأفريقية الأخيرة تدميرا لنفوذها المفروض ، وإطاحة برجالها المختارين ، وما من فرصة على ما يبدو لباريس هذه المرة ، فلا أحد يريدها هناك، فالنخب الأفريقية الجديدة ، قررت إطلاق النار على البؤس الموروث ، الذي يرونه ممثلا في فرنسا بالذات ، وهى التي خبروا وقاسوا قهرها ودمويتها واستغلالها واستعلائها لمئات السنين، وهم لا يحبون من حكامهم ، إلا أن يكرهوا فرنسا ، وأن يطردوا شركاتها وقواعدها من بلادهم.

وعلى نحو ما فعل حكام "النيجر" الجدد ، الذين ألغوا من جانبهم كل الاتفاقات الأمنية والعسكرية مع "باريس" ، وربما يفعلها حكام "الجابون" الجدد ، فقد كان رد "باريس" على مطالب قادة "النيجر" غليظا فجا منافيا مجافيا لأبسط قواعد العلاقات بين الدول، ولاتفاقات "فينيا" التي صنعها الغرب نفسه، فعندما قررت حكومة "نيامي" طرد السفير الفرنسي ، واعتبرته شخصا غير مرغوب به ، كان رد "باريس" ، أنها لن تنفذ القرار ، برغم صدوره عن "سلطة أمر واقع" في بلد آخر ، يعترف القانون الدولي بحقها المقرر في اتخاذ ما ترى من إجراءات ، لا يصح في مواجهتها ، أن ترفضها فرنسا ، ولا أن تفتي بشرعية أو عدم شرعية سلطة "النيجر" ، وقد سبق لباريس نفسها ، أن نفذت بغير تعقيب أوامر انقلابات "مالي" و"بوركينا فاسو" بإجلاء قواعدها العسكرية ، بل ونفذت "الأمم المتحدة" ذاتها أوامر قادة انقلاب "مالي" ، وأجلت قوات حفظ السلام.

فالحقوق السيادية معترف بها لكل صور السلطات ، ونوع الحكم في أي بلد يقرره شعبه ، لكن فرنسا التي تحس بدنو أجل سيطرتها في أفريقيا ، تتصرف بتعنت وجلافة تتعارض مع كل المواثيق ، ولا تريد أن تعترف حقا باستقلال مستعمراتها السابقة ، وربما تحلم بإعادة استعمارها وإخضاعها بالقوة العسكرية المباشرة ، ومن دون أن تدرك عجزا آلت إليه قوتها، وميل حليفتها وقائدتها أمريكا إلى سلوك آخر ، تعترف فيه مؤقتا بسلطات الأمر الواقع، وعلى أمل تغييرها فيما بعد ، بانقلابات أو بانتخابات، وتترك واشنطن فرنسا وحيدة في حالتها العصبية الهائجة، وشعورها المفزوع بأن الأرض تميد من تحت أقدامها ، بينما أمريكا تريد مرونة في السياسة ، قد تفيد في مواجهة النفوذ الصيني المتضخم الزاحف في أفريقيا ، المتأهب لوراثة الغرب كله في القارة السوداء ، وبديناميكية اقتصادية هائلة ، ومن دون التدخل في الشئون الداخلية للدول الأفريقية، وخلف الصين بخطوات ، تأتي حليفتها روسيا ، التي تعتمد على صادرات وهبات القمح والسلاح وتمدد جماعات "فاجنر" ، وتقدم وعدا ضمنيا للحالمين بالتخلص من الداء الفرنسي، بأن تقدم لهم الحماية المطلوبة، وهو ما يفسر جاذبية علم روسيا الطاغي في أوساط المتمردين الأفارقة اليوم، ورفعه في كل مناسبة احتجاج وسخط على الغرب، وعلى فرنسا بالذات .

وقد يقول البعض، إنه على فرنسا أن تراجع تاريخها الأسود، وأن تعتذر عن فظائعها بحق شعوب أفريقيا بالذات، لكن فرنسا تكابر، وتعتبر أنها هى التي خلقت دول أفريقيا "الفرانكوفونية"، تماما كما تدعى أنها خلقت "الجزائر" ، لكن التاريخ لا يخضع لمشيئة فرنسا ، ولا لعنصريتها الفاقعة ، وكما يقول النص القرآني "ويمكرون ويمكر الله" ، فإن للتاريخ مكره وسخرياته ومفارقاته ، فقد سعت فرنسا إلى "فرنسة" الجزائر وغرب أفريقيا، ودار التاريخ دوراته، وزحف الجزائريون بالهجرة إلى فرنسا، وفعلت شعوب أفريقية أخرى اضطرارا، وكادت أمنية "فرنسة الجزائر" ، تنقلب إلى "جزأرة فرنسا" ، وربما "أفرقة فرنسا" في ديارها ، وعلى نحو ما تعكسه انتفاضات الضواحي في باريس وغيرها من المدن الفرنسية ، وآخرها ما جرى عقب مقتل الشاب "نائل" ذي الأصول الجزائرية ، وكانت النتيجة ، اشتعال حرائق غضب ، كادت تدمر أمان فرنسا ، إن لم يكن اليوم فغدا ، إنه انتقام التاريخ الماكر ، الذى ترافقه موجات "خلع" تتقيأ فرنسا في عواصم أفريقيا الفرانكوفونية ، والتي لن يكون انقلاب "الجابون" الأخير نهايتها ، فما زال بطن أفريقيا منتفخا بالغيظ من فرنسا ، التي تعتبر نفسها راعية للحرية ، وهى من أمهات القهر والإذلال والاستعباد .

نقلا عن اخبار اليوم

عبد الحليم قنديل يكتب أفريقيا تخلع فرنسا

مقالات ورأى

click here click here click here altreeq altreeq