الصباح العربي
الأربعاء، 8 مايو 2024 06:02 مـ
الصباح العربي

مقالات ورأى

د. القس أندريه زكى يكتب: ثقافة الحياة

الصباح العربي

يعيش وطننا والمنطقة المحيطة بنا هذه الأيام ظروفًا صعبة، ترتفع موجة المعاناة ونواجه تحدياتٍ كبيرةً، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ويسعى أعداء الحياة لإشاعة اليأس والإحباط والخوف أيضًا بجرائمهم التى لم ترحم أحدًا؛ فهاجموا الكنيسة والمسجد، وقتلوا الكبار والأطفال، واعتدوا على الآمنين. فى خضمّ كل هذه الظروف والتحديات، تأتى إلينا ذكرى ميلاد السيد المسيح، الذى جاء لتكون لنا حياة وليكون لنا أفضل (يوحنا 10: 10). نعم جاء يسوع ليعلِّمنا ويرسِّخ داخلنا «ثقافة الحياة».

يقول الله فى سفر التثنية: »قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ« (تثنية 30: 19). نتعلم من هذه الكلمات أن الله يخيِّرنا بين الحياة والموت، البركة واللعنة، والأهم من ذلك أن قرار اختيار الحياة لا يقف عند حدودك كشخص، لكنه يمتد إلى الأجيال القادمة أيضًا.

ثقافة الحياة ترتبط بالتوبة. لا يمكن أن تكون هناك حياة أو بركة دون توبة، وإن كانت الخطية قد طرحت كثيرين جرحي، وكل قتلاها أقوِياء (أمثال 7: 26)، فإن التوبة هى قرار اختيار الحياة. التوبة وقفة صادقة من القلب تغيِّر اتجاهات الحياة. حاول الإنسان قديمًا أن يكون مستقلًّا عن الله، فسقط، حاول أن يكون عارفًا الخير والشر بمفرده، فسقط، ومع السقوط جاء الموت وحلت اللعنات. ولقد أدرك يسوع أهمية التوبة فجاءت كثيرٌ من كلماته داعيةً للتوبة وفحص الحياة، فقال: »تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ« (متى 4: 17)، ولكى يؤكد أهميتها قال: »إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ« (لوقا 13: 3). التوبة هى الاختيار الوحيد؛ لأنه بعد الموت لا توجد فرصة للاختيار.

ثقافة الحياة لا تعرف الدينونة. الدينونة قاتلة ومدمرة؛ تهدم الآخر وتغلق أمامه جميع الأبواب. أعطانا السيد المسيح درسًا واضحًا فى عدم الإدانة فى موقف المرأة التى أُمسِكت فى ذات الفعل (يوحنا 8: 3- 11)، وهذه كانت جريمة زنا مكتملة الأركان، المسيح لم يُدِنها، بل نبَّه من حكموا عليها بأن يفحصوا حياتهم أولًا، فقال لهم: »مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!«، فيا من تدين غيرك، أنت فى الدينونة. ثقافة الحياة إذًا تعرف النقد البنَّاء، الذى يحرص على الشخص وتقويمه، ونموِّه.

ثقافة الحياة تؤمن بالصبر وتعطى فرصة ثانية وثالثة ورابعة. ضاع كثيرون لعدم وجود فرصة ثانية، لا بد أن يحرص كل قائد على منح الفرصة لمن هم حوله؛ فالقائد الهش هو من يدمر الناس فى أول خطأ لهم. القائد الحقيقى يبنى مَن هم حوله؛ فالقائد الذى ليس حوله قادة هو فاشلٌ. ثقافة الحياة تدعو لبناء أجيال جديدة.

ثقافة الحياة ترتبط بالتدريب والاستثمار وبناء قدرات الآخرين. نرى فى قصة مرقس وبرنابا وبولس (أعمال الرسل 15) مثالًا حيًّا لبناء الآخرين؛ فى البداية، رفض بولس أن يكون مرقس معه وذلك لضعف امكاناته فى ذلك الوقت، ولكن برنابا احتضن مرقس وبنى قدرته، حتى أن بولس الرسول بعد فترة قال عن مرقس إنه »نَافِعٌ لِى لِلْخِدْمَةِ« (2 تيموثاوس 4: 11).

ثقافة الحياة تبنى الجسور مع الآخر. ثمة فجوات كبيرة بين البشر؛ فجوات جيلية ورؤى مختلفة وآراء وتوجُّهات متباينة، إدراك هذه الفجوات والاختلافات ليس كافيًا، ثقافة الحياة لا تقف عند هذه النقطة، بل تأخذ مبادرة الذهاب إلى الآخر وتبنى الجسور معه، مبادرة الذهاب إلى الآخر تغيِّر أشياء كثيرة؛ ففى مد الجسور مع الآخر عبور، وفى العبور لقاء، وفى اللقاء حياة. ثقافة الحياة إذًا لا تعرف التقوقع والانعزال.

ثقافة الحياة ترتبط بالمسئولية الجماعية. مرات كثيرة أقف متأملًا فى كلمات السيد المسيح: »كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِى السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِى السَّمَاءِ« (متى 18: 18)، أتأمل فى حجم المسئولية التى وضعها السيد المسيح على عاتق الكنيسة من خلال شركة المؤمنين وعمل الروح القدس، كيف ستكون النتيجة إن لم تضطلع الكنيسة بهذه المسئولية الجماعية فى الالتحام مع قضايا الناس وتغيير الظروف؟ الكنيسة كجماعة تأخذ مسئوليتها الجماعية فى إطار مبادرات الأفراد. والروح القدس يعطى الكنيسة هذه المسئولية الإبداعية فى التصدى للقضايا التى جلبت معها الموت واللعنات وتحويلها إلى الحياة والبركة وبناء المجتمع، وفتح الباب للخطاة وتغيير حياة الناس، هذه هى الحياة والبركة، وهذه هى ثقافة الحياة.

تأتى ذكرى الميلاد فى بداية العام الجديد، لتنعش الأمل داخلنا وتلهمنا رؤيةً جديدةً فى حاضرنا ومستقبلنا، وترسخ داخلنا ثقافة الحياة والبركة. فى الميلاد دعوة لنا جميعًا للتوبة وفحص حياتنا، والتوقف عن الحكم على الآخرين وإعطاء الفرص لهم، وبناء قدراتنا وقدرات الآخرين والاستثمار فيها، وبناء الجسور مع الآخر والذهاب إليه، للاضطلاع بدورنا فى المسئولية الجماعية تجاه المجتمع.

ومع بداية العام الجديد، أصلى لمصرنا الحبيبة، شعبًا وقادةً، أن نتغلب على كل التحديات، وأن نعيش بحق ثقافة الحياة، ليعم السلام والمسرة، وتسود المحبة.

> رئيس الطائفة الأنجيلية بمصر

نقلا عن صحيفة الأهرام 

د. القس أندريه زكى يكتب  ثقافة الحياة

مقالات ورأى

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq