الصباح العربي
الجمعة، 26 أبريل 2024 12:31 مـ
الصباح العربي

مقالات ورأى

مراد وهبة يكتب: رؤيتى لـ «القرن الحادى والعشرين» (202) ما الحياة ؟

الصباح العربي

سؤال أثير فى القرن العشرين ويثار الآن فى القرن الحادى والعشرين. ففى عام 1944 طُبع كتاب عنوانه «ما الحياة ؟» للعالم الفيزيائى النمساوى الحاصل على جائزة نوبل ارفنج شرودنجر. وقد صدرت منه ست وعشرون طبعة. 

والسؤال إذن: هل ثمة علاقة بين علم الفزياء وعلم الحياة؟ 

والدافع إلى إثارة هذا السؤال هو التناقض القائم بين قوانين المادة فى علم الفيزياء وقوانين الحياة فى علم الحياة. وقد حاول شرودنجر إزالة هذا التناقض لسببين: السبب الأول مردود إلى اعتقاده أن ثمة «وحدة معرفة» بين العلوم المتباينة، أما السبب الثانى فمردود إلى اعتقاد شرودنجر أن القوانين التى تتحكم فى الكائنات الحية هى قوانين علم الفيزياء . ومع ذلك أثار هذا السؤال: ما الحياة؟ وكان جوابه أنها تتميز عن المادة فى أنها تؤدى حركة وتدخل فى علاقة تبادل مع البيئة الخارجية، وبذلك تحافظ على اتزانها، ومن ثم تفلت من ظاهرة «الانتروبي» أى النتوء، وقد قيل عن هذا الانتروبى إن منعه من البزوغ محكوم بقوى فائقة للطبيعة وليس فى مقدور علم الفيزياء معرفتها. 

وفى عام 1970 صدر فى فرنسا كتاب عنوانه «منطق الحياة» لعالم فرنسى اسمه فرانسوا جاكوب حائز هو أيضا على جائزة نوبل. وأظن أن عنوان كتابه صادم لمُلاك الحقيقة المطلقة الذين لا يرون للحياة منطقاً يحكمها. ولا أدل على صحة هذا الظن من قول جاكوب إنه ليس أخطر علينا من ذلك الذى يعتقد أن لديه هاجساً واحداً وهو أن الحقيقة التى يملكها ترقى إلى مستوى المطلق. ومن هنا ينتهى جاكوب إلى نتيجة مفادها أن التعصب هو سبب كل الجرائم التى ارتكبت فى تاريخ البشرية. وعلى الضد من ذلك مفهوم التطور الذى يتحكم فى حياة الفرد بحكم أنه محكوم بخطة متفاعلة مع العالم الطبيعى وبذلك تصبح الحياة عملية متواصلة لا تقتصر فقط على تذكر الماضى بل أيضا على رؤية المستقبل فى إطار تحكم الجينات بل فى إطار تحكم جهاز محكم اسمه جهاز المناعة الذى إذا ظل متزناً ظلت الحياة بلا انقطاع. أما إذا اختل الاتزان فإن الحياة تختل، ومن ثم يأتى الموت ملبياً لهذا الاختلال. ومن هنا نشأ مشروع الجينوم المحكوم بمجموعة كاملة من الجينات البشرية، وهذه المجموعة ملفوقة فى ثلاثة وعشرين زوجاً من الكروموزومات، وهى فى مجملها عبارة عن سيرة ذاتية للنوع الانساني. وقد صدر كتاب عن هذا المشروع من تأليف المفكر الانجليزى مات بردلى فى نهاية القرن العشرين. 

ومع ذلك كله فإنه ليس فى الامكان الحديث عن الحياة دون الحديث عن نقيضها وهو الموت. وفى هذا السياق صدر كتاب عنوانه «الجنس وجذور الموت» للعالم الانجليزى وليم كلارك. والكتاب دراسة علمية لعلم الموت. وهذا العلم فرع من الطب إلا أنه لا يدرس طبيعة الموت إنما يدرس علم الأمراض. وهذا العلم هو الذى يثير هذا السؤال: ما الموت؟ أو بالأدق كيف تموت الخلية؟ مع ملاحظة أن الخلايا عددها أكثر من مائة تريليون. حاول العلماء الذين نالوا جائزة نوبل فى عام 2011 الاجابة عن ذلك السؤال وذلك بدراستهم لجهاز المناعة وعلاقته بنشوء مرض السرطان. وفى هذا العام نال ثلاثة علماء فى الكيمياء جائزة نوبل بسبب تطويرهم للتصوير الميكروسكوبى الالكترونى البارد للكشف عن تركيب جزئيات كيمائية- بيولوجية فى الخلية، وبالأخص الجينات. ولكن السؤال: ماذا يعنى لفظ «البارد» الملازم لذلك التصوير؟ إنه يعنى تجميد لقطة فى فيلم، واللقطة هنا خاصة بتجميد الخلية فى لحظات متتالية وهى تنتقل من حال طبيعى إلى وضع سرطاني، ومن ثم يمكن معرفة التغيرات التى تحدث فى جينات الخلية والتى تكون السبب فى انتقالها من الطبيعى إلى السرطاني. 

ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: هل فى الإمكان تصوير عملية التغير ذاتها؟ أظن أن الجواب بالسلب لأن العملية ذاتها ليس فى الإمكان تصويرها، إنما الذى فى الإمكان تصويره هو الحال الذى انتهت إليه الخلية، وإذا كان ذلك كذلك فيلزم الاستعانة بأداة أخرى غير أداة التصوير،وهذه الأداة تكمن فى التصور وليس فى التصوير. وإذا كان التصور يأتى فى مقدمة المفاهيم الفلسفية، أو بالأدق فى مقدمة عملية التفلسف فيلزم أن يأتى سؤال على النحو الآتي: ماذا فى إمكان التفلسف أن يقدم من نظرية تدور حول بزوغ الخلية السرطانية؟ جاء جوابى عن هذا السؤال فى البحث الذى ألقيته فى الدورة الرابعة لملتقيات قرطاج الدولى بتونس فى عام 2000 والتى أشرف على تنظيمها عالم الاجتماع المتميز عبد الوهاب بوحديبه ورئيس بيت الحكمة تحت عنوان «ما الحياة؟» وكان عنوان بحثى «حياة بلا موت». وقد جاءت الخاتمة جواباً عن هذا السؤال: كيف تتحول الخلية السليمة إلى خلية سرطانية؟ 

وجاء جوابى مشتقاً من معرفة الخاصية الأساسية للخلية السرطانية التى تكمن فى حصولها على طاقة حيوية تتجاوز الحد السوي، ومن ثم تختل عدالة التوزيع لهذه الطاقة فتكون لدينا خلية ثرية بهذه الطاقة فى مقابل خلية فقيرة من هذه الطاقة، ويترتب على ذلك أن الخلية الأولى تأكل الخلية الثانية بأسلوب وحشى إلى حد إماتتها. ومن ثم يمكن أن يقال عن الخلية السرطانية إنها خلية تتارية تدمر الحياة ذاتها على غرار تدمير التتار للحضارة، وبالتالى فإن السبب الذى يسمح ببزوغ التتار هو الذى يسمح ببزوغ الخلية السرطانية. فإذا كان سبب التتار رفض الحضارة فسبب بزوغ السرطان رفض الحياة. السرطان اذن كامن فى فلسفة الحياة وليس فى فسيولوجيا الحياة بمعنى أنه إذا استقامت فلسفة الحياة مع الحياة استمرت الحياة. 

نقلا عن صحيفة الأهرام

مراد وهبة يكتب  رؤيتى «القرن الحادى والعشرين» الحياة

مقالات ورأى

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq