الصباح العربي
الإثنين، 6 مايو 2024 02:00 مـ
الصباح العربي

فن وثقافة

الخال.. شاعر السينما الملحمية

الصباح العربي

لم يكن عبد الرحمن الأبنودي، مجرد شاعر عامية حفر اسمه بنفسه، ومكانته بجوار أسماء، مثل فؤاد حداد وصلاح جاهين وسيد حجاب وفؤاد قاعود على مدى ما يقرب من نصف قرن تقريبا، وغنى له عمالقة كبار من أمثال عبد الحليم حافظ وصباح وفايزة أحمد ومحمد رشدى ونجاة ومحمد منير وعلى الحجار أروع الصور والكلمات، وفى ذكرى رحيله نستعرض لمحات من حياته، وروائع أشعاره.

عبر عشرين ديوانا شعريا ومجموعة من الأفلام والمسلسلات كانت لغة الصورة السينمائية هى الطاغية طول الوقت على ما يكتبه الأبنودي، فحتى دواوينه حملت أسماء سينمائية من نوعية (وجوه على الشط، المشروع والممنوع، صمت الجرس، المدّ والجزر، الأحزان العادية، الموت على الأسفلت) وهذا الأخير كان بالفعل اسما لفيلم سينمائي، وعادة ما يلقى أشعاره بأداء تمثيلى صادق من القلب مما يؤثر فى المتلقى ويشعره بالاندماج.

وأغنياته بدورها تحمل هذا الوميض الذى يشع حركة وصخبا وضوءا وحوارا مؤثرا وموحيا فى نفس الوقت، مما يمكن معه اعتباره شاعر السينما الملحمية ربما لطغيان الأسلوب الملحمى على الأعمال القليلة جدا التى كتب لها السيناريو والحوار أو تلك التى كتب الأغنيات الدرامية لها مثل فيلم ( البريء) الذى يناقش قضية قمع الحرية باستخدام جهل الأبرياء فى كل زمان ومكان فإذا بالأبنودى يستخدم كلمات أغنياته التى تبدو بمثابة المعلق على الأحداث على هذا النحو (زنزانتى لو أضيق.. أنا من ورا السجان.. ف العتمة بتشعلق.. حتى على الدخان.. وأغنى بدموعى.. لضحكة الأوطان)، وهو نوع من الحوار الدرامى المغنى الذى يعد جزءا أصليا من نسيج الفيلم الذى يعتمد قالبا يقترب من الملحمى وهو يستعرض قضية الحرية.

أما فيلم (شيء من الخوف ) والذى كتب له السيناريو والحوار الأبنودى، فهو عمل ملحمي بكل إشارة وإيماءة ولمحة فيه.. إنه واحد من كلاسيكيات السينما المصرية الذى جاءت مشاركة الأبنودى فى كتابته بالإضافة لأغنياته مجرد صدفة وإن كانت خيرا من ألف ميعاد فكما يروى الأبنودى نفسه فى حلقات نشرت له باليوم السابع أنه كان فى زيارة لاستوديو النحاس، وفجأة وجد أمامه حسين كمال يقول له «إنت فين؟ أنا بادوّر عليك.. خُد السيناريو ده اعمل الأغانى بتاعته، بس أنا عايزه بصورة ملحمية مختلفة، ومعاك شادية ومعاك الكورال». أمسك الأبنودى الورق وقرأ السيناريو والحوار الذى كتبه صبرى عزت، لكنه شعر بحاسة الشاعر أن الفيلم بهذه الصورة سيخرج عاديا، قد يكون جيدا لكنه ليس ملحميا كما يريد حسين كمال، فقرر أن يعيد كتابته دون أن يأخذ رأى أحد أو يستشير أحدا، فقد كان يدرك أنه لو طلب ذلك من حسين كمال لقابله بالرفض، لأن كل شىء كان جاهزا لبدء التصوير خلال أيام قلائل.

لكن الأبنودى الصعيدى نفذ ما فى رأسه فقط، ولم ينَم أربعة أيام متتالية إلا قليلا، وبدأ بالفعل يكتب مشاهد ويحذف أخرى حتى كتب الفيلم من بدايته حتى نهايته وفقا لرؤيته، ونقل الحوار من لهجته البحراوية إلى اللهجة الصعيدية، ومزج بين الأغانى والحوار.

ومن المؤكد أن حوار هذا الفيلم يعد بالفعل واحدا من أهم وأمتع وأخلد ماكتب للسينما فى قضايا الطغاة بالذات وفى تيمات القهر الشائعة، حتى الأغانى من نوعية «أهوه أهوه بالضحكة ده بالخلقة ده مالى البلد دى الخوف» فى صميم النسيج الدرامى الملحمي، فلا توجد أغنية يمكن حذفها من الفيلم دون أن يتأثر السياق الأسلوبى للفيلم.

ورغم اعتراض الأبنودى نفسه على فيلم آخر مهم كتب له الحوار هو (الطوق والأسورة) عن رواية الأديب يحيى الطاهر عبدالله وإخراج خيرى بشارة من زاوية، إن المخرج استعان ببعض فرق التمثيل بالأقصر لتحفيظ الممثلين، وإن لهجة الأقصر تختلف تماما عن تلك اللهجة التى كتبها الأبنودي، بل إنه يصر على أنه لم يفهم بعض الكلمات التى قيلت على لسان بعض الشخصيات رغم أنه كاتب الحوار إلا أن هذا الفيلم يعتبر دليلا آخر على ذلك الشعر السينمائى الذى يتسلل من بين ثنايا الحوار والذى يعد بدوره واحدا من أهم كلاسيكيات السينما المصرية والعربية ناهيك عن الملحمية التى أضفاها الأبنودى ولم تكن بهذا الشكل فى الرواية الأصلية الأكثر واقعية.. فهناك نسيج أسطورى للحكاية الواقعية يختلف عن ذلك النسيج الموجود فى (شيء من الخوف) الأكثر ملحمية وأقل أسطورية ليس لاختلاف أسلوب الإخراج بين مدرستى حسين كمال وخيرى بشارة فحسب بل واختلاف مدرستى كاتبى الرواية من ثروت أباظة ليحى الطاهر وطبيعة الأحداث فقد كان الأبنودى هو الراعى المشترك الرسمى لجعل العملين أكثر تفردا وخلودا على الشاشة بحواره المميز ولهجته الصعيدية المتباينة بين مكانين أحدهما يقترب من وجه بحرى أكثر والثانى مغرق فى جنوب الصعيد الأكثر تعقيدا وأشد عنفا وسخونة داخلية.. والمدهش فى العملين أن الأول كان السيناريو والحوار الأصلى لصبرى عزت وهو من الأسماء العبقرية فى تاريخ السينما المصرية كسيناريست ويكفى أنه صاحب البوسطجى والثانى للدكتور يحيى عزمى ورغم ذلك فقد طغى أسلوب الأبنودى على حوار الفيلمين.

ورغم ذلك كان الأبنودى يرى أن كتابة السيناريو والحوار ليست مهنته وأنه «مجرد ضيف» إلا أنه دعى للمشاركة فى تجربة ثالثة كتب لها السيناريو والحوار وهى (أغنية الموت) عن قصة لتوفيق الحكيم اختارتها فاتن حمامة وأسندت إخراجها لسعيد مرزوق فى فيلم تليفزيونى، وكان اختيارها للأبنودى بعد أن شاهدت «شىء من الخوف».

ورسم الأبنودى سيناريو لمكان يشبه بيت جدته «ست أبوها» فى أبنود، الغرفة، السلم الطينى، السور المبنى بأزيار الماء المقلوبة، والملابس والوشم على الوجوه، وباب البيت ذو الضلفة الواحدة الذى يُصدر عند فتحه وإغلاقه أنينا يشبه أنين السواقى، ولم يقدر لهذا العمل أن يأخذ حظه من العرض حتى على شاشة التليفزيون لكنه يظل واحدا من الأعمال المهمة فى تاريخ الأبنودى وسعيد مرزوق وفاتن حمامة.

وقد كتب الأبنودى بعد ذلك بسنوات حوار مسلسل «وادى الملوك» المأخوذ عن قصة «يوم غائم فى البر الغربى» للأديب محمد المنسى قنديل، وكانت تجربة مجهدة لشاعر تعود على الإيقاع المتدفق والمكثف فى الشعر والسينما لذا لم يكررها بعد ذلك وفى تصورى أن الجهد التوثيقى الكبير والمهم للتراث الفلكلورى، الذى تمثل فى عكوف الأبنودى ما يقرب من ربع القرن على جمع وتدوين “السيرة الهلالية” من رواتها فى صعيد مصر وفى تونس ومدن المغرب العربى، ليصدرها كاملة فى خمسة أجزاء تتناول سيرة قبيلة بنى هلال ورحلتها من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى الأراضى التونسية شمال القارة الأفريقية بمثابة إبداع يستحق روايته سينمائيا أيضا، فقد كان قدر ابن الصعيد شاعر الملاحم أن يكون أيضا حكاء مشبعا بالتجربة والتفاصيل والدراما وهو ما سطره أيضا فى مذكراته التى أسماها (أيامنا الحلوة) وتصلح بدورها لتحويلها للسينما.. فالملحمة والحكاية جزء من نشاة وتكوين عقل وروح الابنودي، والسرد جزء حميمى من تكوين الخال كما يناديه كل من عرفه ولذلك كان يستحق أن يكون شاعر السينما والتجربة المشبعة بالشجن والإنسانية والملحمية.

الخال شاعر السينما الملحمية

فن وثقافة

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq