الصباح العربي
السبت، 4 مايو 2024 04:17 مـ
الصباح العربي

فن وثقافة

زهـــور الإســــفــــــلــــــت - قـصـة قـصـيـرة - أحـمـد الـخـمـيسـي

الصباح العربي

تدوي الصرخة منتصف كل ليلة ، تمزع الأجواء باهتياج وحشي غريب، كأن مئة رجل ينزفون معا أوجاع آلاف السنين. أهرول إلى نافذة الصالة. أخرج رأسي منها. أتلفت يمين ويسار الشارع لكن لا أرى غير كلاب تعوي وذيولها بين قوائمها، تفر من الصوت إلى أسفل السيارات. ليلة بعد الأخرى تنداح الصيحة بتألم عميق قوي حتى أمست تقض مضجعي وتغمني وصرت أترقب دويها واقفا عند النافذة ليلة بعد الأخرى. الآن ألمح رجلا قادما من مطلع الشارع يمشي ببطء وقد رفع كفيه إلى السماء يضج بصيحة حارة، تابعته ببصري حتى اختفى. ترقبت قدومه بعد ذلك لكنه لم يظهر يومين متتالين، ثم أطل من جديد من بداية الشارع، لكنه بدا لي هذه المرة أقل حجما، سريع الحركة، مختلفا عما رأيته. أتبعته بصري. سار حتى انعطف يمينا في نهاية الشارع واختفى خلف البيوت لكن صدى صرخته ظل معلقا في الهواء برهة. رقدت في حجرتي أحدق بالسقف وانثالت على أحزان قديمة غريبة من طفولتي، وشقاء والدي الصعيدي المغترب وهو يهبط بالأحجار من المراكب القادمة من أسوان ويرصها على الشط، الحجر بخمسة قروش، ولم يكن لنا أن نطالبه بأي شيء، حتى الأحذية، فكنا نعيش على عطايا الأقارب وعطفهم.

صباح اليوم التالي أخذت أستفسر في المنطقة عن الصرخة الليلية. سمعت حكايات منها أنه فلاح اغتصبوا أرضه، بل إنه شاب كان يملك كشك سجائر أزالوه لتوسعة الشارع، وفوجيء بعد التوسيع بمحل مبني على طراز حديث في مكان الكشك. حكي آخر أن صاحب الصرخة كان محاميا يتمتع بسمعة طيبة، اعتقل لثلاثة أعوام، وخرج بعدها إلى الحياة ذاهلا معظم الوقت، إذا كلمته في أي موضوع يحملق فيك سائلا : " طيب.. وأين القانون الذي درسناه؟". وزادت الحكايات بما قاله لي أحد الجيران من أنه في الواقع عامل بسيط كان ابنه الأول على زملائه في كلية العلوم السياسية، وظن مع ابنه أن التفوق سيشفع له للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، لكن فوجيء بعبارة صغيرة مسجلة على أوراقه:" غير لائق اجتماعيا. مرفوض"، أي لأنه من بيئة فقيرة لا توائم ذلك المجال. ألقى الشاب نفسه في مياه النيل، وجن أبوه، وصار يطوف بين البيوت يلعن ويسترحم ويبكي. سمعت حكايات أخرى كثيرة حتى كدت أوقن أن هناك أكثر من شخص يطوفون الشوارع بآلامهم، أو أن ثمت شخصا واحدا بعشرات الوجوه والمظالم.

وقفت الليلة كعادتي عند النافذة. أشعلت عود ثقاب لأدخن فأضاء بنوره وجهي. رحت أترقب دوي الصرخة وظهور المجهول. تذكرت والدي في أيامه الأخيرة وهو راقد على السرير عاجز عن التعرف الينا. كان يحدق بي وأنا على طرف السرير، يقبض على كفي بقوة ثم يقول: " لا أذكر من أنت.. لكني أعرفك". لبثت سارحا في صور من حياتي حتى ارتج وتخلخل هواء الشارع من الآهة العميقة. مددت عنقي أبعد خارج النافذة. لمحت الرجل يمضي مترنحا بين ظلال الأشجار والبيوت. كنت هذه المرة متأهبا بكامل ملابسي لكي أتعقبه. قلت لنفسي ربما أستطيع أن أساعده بشيء. غادرت الشقة وهبطت الدرج بلهوجة، ورأيته من من ظهره وأنا مازلت عند مدخل العمارة. سرت خلفه من على مسافة معقولة. اخترق الشارع للأمام صارخا، ثم انحرف إلى زقاق ضيق، وهناك توقف لحظة يتطلع إلى الشرفات الساكنة الناعسة. واصل سيره إلى ميدان تتوسطه صينية. تمهل كأنه ينزف عذابا ويحتاج راحة، ثم دوت صرخته أعلى ما تكون ومشى مسافة طويلة إلى أن بلغ أنقاض بيت قديم كان يحده من جهة الشارع حائط منخفض. وثب فوق الحائط إلى الناحية الأخرى التي لا أراها . عدوت بسرعة ووثبت خلفه، فرأيت أني أقف في خربة مهجورة تتجول القطط فيها وترتفع أكوام القمامة في أركانها. درت بعيني يمينا وشمالا أبحث عنه لكني لم أر له أثرا. أين يمكن أن يختفى؟. تململت في وقفتي حائرا فارتطمت قدماي بجسم حديدي بارز عن الأرض. سحبت قدمي وهبطت ببصري لأسفل فرأيت شبكة قضبان صدئة تغطي شيئا. أحنيت جذعي ورأسي وغرزت ركبتي في الأرض. رفعت الغطاء فبانت تحته فتحة مستديرة تتسع لنزول إنسان منها. هل اتخذ لنفسه مأوى تحت الأرض؟. وضعت قدمي عند جانبي الفتحة ورفعت ذراعي لأعلى لكي لا تعوقا هبوطي. تلمست قدماي وأنا أهبط درجا ضيقا صغيرا. بلغت الدرجة الأخيرة ولم أنزل منها. لبثت واقفا في مكاني أحاول أن أخترق بنظري العتمة من حولي. هبت علي رائحة رطوبة راكدة وعرق كثيف، وهاجمتني على الفور حلقة هاموش دقيق رحت أطرده عن وجهي. اعتادت عيناي العتمة قليلا فحدقت أمامي. كنت في قبو مضلع الجدران يسبح في ضوء أزرق ميت، وعلى مد الشوف تراءت لي ظلال أكواخ متكسرة وأشباح رجال ونساء وخفق شموع من ورش نجارة وحدادة تصدر منها أصوات ضربات المطارق. لبثت مبهوتا. شعب تحت الإسفلت الذي ندوس عليه ؟! شيئا فشيئا راحت تبرز من غمرة الظلال طوابير من البشر تتقدم نحوي، تتجاور، وتتفرق، وتتسع، وتضيق، وكل من فيها يتطلع إلي بنظرة محشوة بطلقات الأسئلة. اقترب مني طفل على جبهته طفح جلدي وبيده شيء صغير، توقف عند ركبتي. فتح عينيه في بنظرة من دفء وظلام وجذور. ظل يحدق بي من دون أن يرمش جفنه. أدركت أنه لابد من الصعود والخروج. رفعت قدمي ببطء إلى الدرجة الأعلى، صعدت درجة بعد الأخرى من دون أن أحيد ببصري عن الطوابير التي بدأت قاماتها تختفي كلما ارتفعت. أخيرا هبت نسمة هواء نقي وسقط على كتفي شعاع عبر الفتحة فاستجمعت قواي ورفعت جسمي لأنفذ إلى السطح. خرجت وأنا ألهث. ألقيت نظرة على الفتحة الضيقة فبدت لي مثل فم الأرض تأكل به الضعفاء. وثبت من فوق الحائط إلى الناحية الأخرى، ورحت أتخطف الهواء بفم مفتوح. كان الشارع خاليا موحشا وقد ترامت المباني كأنها ودعت حياتها ولزمت الصمت ظلال الأشجار. استجمعت قوتي وبدأت أتحرك، لكني ما إن خطوت خطوتي الأولى حتى تشقق إسفلت الشارع من تحت قدمي، ومن حولي، ومن أمامي، وخلفي، وكلما تحركت خطوة تشرخ الإسفلت وبرزت من شقوقه وشروخه قبضات ملوحة وأفواه جائعة وأنصاف وجوه دامية. ركضت مفزوعا، عدوت بجنون، أحاول قدر استطاعتي التفلت من الأيادي الطالعة وصياح الحناجر حتى لم تعد ساقاي قادرتين فانهرت على طرف رصيف مسندا ظهري لعمود نور، تحاصرني من كل جهة آلاف العيون. لبثت جالسا وقد تجمد من حولي الشعب الذي خرج من تحت الإسفلت، يطوقني، ويواصل النظر إلي بثبات، يترقبون شيئا لا أعرفه، بيأس أو غضب، وربما بأمل، ولم أدرك إن كانوا يطلبون مني البقاء معهم تحت الإسفلت معهم أم أن يصعدوا معي إلى أعلى؟. فقط لمعت عيونهم تحت السماء المعتمة مثل البرق، وما لبثت السماء أن أمطرت، بصمت وبرفق، كأنها تهمس في أذن الأرض، فتفتحت قطرات المياه الشفافة زهورا بيضاء على الإسفلت الأسود، واستحكم صمت عجيب شمل كل شيء، ونحن في ذهول، أبصارنا معلقة بسلاسل النور التي راحت تمتد، وتتجاوزنا، وتتراكم في تلال، ثم تنهض وتعاود سيرها، وقد فاحت في الأرض أنفاس الطفولة الأولى.

*****

d6565793e4daf232025bdbe1a9069489.jpg
زهـــور الإســــفــــــلــــــت قـصـة قـصـيـرة أحـمـد الـخـمـيسـي

فن وثقافة

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq