الصباح العربي
الإثنين، 6 مايو 2024 11:29 صـ
الصباح العربي

مقالات ورأى

د‏.‏ جلال أمين يكتب: لماذا لا تتكرر ظاهرة طه حسين وتوفيق الحكيم؟

الصباح العربي

لماذا يصعب أن نتصور أن يصدر فى مصر الآن كتاب يُحدث مثلما أحدثه كتاب «فى الشعر الجاهلي» لطه حسين عندما نشر فى 1926، أى منذ نحو 90 عاما؟ يمكن أن نسأل السؤال نفسه عن مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم التى نشرت لأول مرة فى 1933، أو كتابه يوميات نائب فى الأرياف (1937)، أو مستقبل الثقافة فى مصر لطه حسين (1938)؟. 

من الممكن أن نقول إن الحياة الثقافية فى مصر كانت أكثر جدية فى ذلك الوقت منها الآن، ولكن هذا ليس تفسيرا كافيا، وقد لا يكون تفسيرا صحيحا. الفرق فيما يبدو ليس فى درجة الحيوية بل فى نوع الكتب التى تثير ضجة أو لا تثيرها. 

كان طه حسين وتوفيق الحكيم قد سافرا إلى فرنسا فى عقب الحرب العالمية الأولي، وقضيا هناك عدة سنوات حصل خلالها طه حسين على الدكتوراه فى فلسفة ابن خلدون فى التاريخ، واطلع توفيق الحكيم على آخر وأفضل ما أنتجته أوروبا من أعمال أدبية، وعاد الاثنان ليحيطا المصريين علما بما حدث من تقدم ثقافى فى الغرب، وكان من ثمار هذا تنشيط حركة الترجمة من الفرنسية والانجليزية والألمانية إلى العربية، وكانت لجنة التأليف والترجمة والنشر التى تأسست فى مصر فى عام 1914، قد قامت بجهد رائع فى هذا الاتجاه بنشرها ترجمات جيدة بأقلام تجيد اللغات الأجنبية والعربية، لأعمال كتاب مثل برنارد شو الأيرلندى وأناتول فرانس الفرنسى وجوته الألماني، وكانت العقود الثلاثة التى تفصل بين بداية الحرب العالمية الأولى (1914) ونهاية الحرب العالمية الثانية (1945) فترة شديدة الخصوبة فى أعمال الترجمة والتعرف على الانتاج الثقافى الأوروبي، ومن المؤكد أن كتب طه حسين والحكيم قد أسهمت مساهمة كبيرة فى هذه الخصوبة. لم يكن الجميع راضين عن هذا الافتتان الشديد بالحضارة الأوروبية، إذ وجد البعض فيه دليلا على ضعف الثقة بتراثنا العربى والإسلامي، وحذروا من أضرار المبالغة فى هذا التقدير لثقافة الغرب، وكان من المؤكد أن الفريق الأول هو الذى انتصر فى النهاية، كما يظهر من درجة «التغريب» الذى حدث للثقافة العربية خلال المائة عام الماضية، بل إنى أشك فى أن رجلا مثل طه حسين أو توفيق الحكيم كان يمكن أن يرضى عما حدث، لو قدر له أن يرى إلى أى مدى جرى هذا التغريب خلال تلك الفترة لا أظن أن أيا منهما كان يتصور أن يتحول الاعجاب بحضارة الغرب إلى ما يشبه الانسحاق امامها، إذ أظن أن ما كانا يدعوان اليه لم يكن يبلغ هذا القدر من التقليد المقترن بفقدان الثقة بالنفس. 

كان طه حسين قد دعا فى كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» قبيل الحرب العالمية الثانية إلى أن «نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم»، وأن نقبل من الحضارة «خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب». فهل كان طه حسين، لو قدر له أن يرى ما حدث للثقافة المصرية (والعربية) خلال العقود الثمانية الماضية، سيعتبر ذلك التلبية المرجوة لدعوته، أم أن الأمر قد زاد على الحد، فأخذنا من الحضارة والثقافة الغربية أكثر بكثير مما كان طه حسين يظنه ممكنا أو مطلوبا؟ 

أظن أن الاحتمال الثانى هو الأرجح، كما أظن أن هذا يتضمن ايضا الاجابة التى بدأنا بإثارتها، وهى «لماذا لا تتكرر ظاهرة طه حسين وتوفيق الحكيم؟» بعبارة أخري، أظن أن السبب الحقيقى فى أن من الصعب أن تتكرر ظاهرة طه حسين وتوفيق الحكيم هو أن ما كانا يدعوان إليه (من حيث الموقف الواجب من الحضارة والثقافة الأوروبية)، قد تتحقق فى الواقع بدرجة تفوق بكثير ما كانا يحبذانه ويدعوان اليه، فلماذا يظهر الآن من يكرر هذه الدعوة التى تحققت بالفعل؟. 

ولكن لا شك أن هناك تفسيرات أخري. كان المثقفون المصريون الذين اتصلوا عن قرب بالثقافة الأوروبية، ابتداء من العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، أكثر إطلاعا على التراث الثقافى العربى والإسلامى من معظم من جاء بعدهم من مثقفين، ومن ثم كانت الدعوة إلى مزيد من الاطلاع على الثقافة الغربية ودراستها وفهمها لا تقترن بدرجة عالية من الخوف من أن يفقد المثقف المصرى أو العربى نفسه ويستسلم لسحر الثقافة الغربية وثقافتها. نعم كان طه حسين وتوفيق الحكيم شديدى الاعجاب بما أنجزته الثقافة الأوروبية، ولهذا جاءت دعوتهما إلى الاطلاع عليها والاقتباس منها، ولكنهما، فيما أظن، كانا أكثر تقديرا من مثقفينا الحاليين لأوجه القوة فى تراثنا نحن، فجاءت دعوتهما إلى «الجمع» بين الثقافتين وليس إلى إحلال إحداهما محل الأخري. 

كان طه حسين وتوفيق الحكيم أكثر اتقانا للغتهما العربية، عن معظم مثقفينا اليوم، وربما كان هذا سببا آخر جعلهما لا يشعران بالخوف من أن نبالغ فى إحلال اللغة الاجنبية محل لغتنا العربية فى التعبير عن أنفسنا. 

قارن هذا بحالنا الآن، حيث أصبح كثيرون من كتابنا يكادون يباهون بإحلال الكلمة الأجنبية أو التعبير الأجنبى محل التعبير بالعربية. 

باختصار كان طه حسين وتوفيق الحكيم وجيلهما من الكتاب المصريين والعرب أكثر ثقة بالنفس، وأكثر تفاؤلا بمستقبل الثقافة العربية، من الجيل الحالى من مثقفينا، فلا عجب أن يصعب تصور تكرار ذلك الجيل الجميل من الكتاب المصريين والعرب. 

نقلا عن صحيفة الأهرام

د‏.‏ جلال أمين يكتب لماذا تتكرر ظاهرة طه حسين توفيق الحكيم؟

مقالات ورأى

آخر الأخبار

click here click here click here altreeq altreeq